حرف المشغولات الجلدية..

جلودٌ «تدبغها» الذاكرة.

في فضاء الحرف اليدوية، حيث تتعانق المهارة مع الصبر، وتلتقي المادة الخام بالخيال، تنهض حرفة المشغولات الجلدية بوصفها واحدة من أبرز التعبيرات الثقافية عن الحياة في المملكة. فهي ليست مجرد مهنة عابرة في سجل التراث، وإنما ذاكرة حيّة تختزن تفاصيل الحياة اليومية للإنسان منذ أن كان الجلد رفيق الترحال والسفر، ووعاء الماء، وغلاف الكتاب، وزينة الفارس في معاركه، وحتى يومنا هذا حيث يتحول الجلد المصقول إلى قطعة فنية تُعرض في المهرجانات، أو منتجٍ فاخر يجد طريقه إلى الأسواق العالمية. إن الحديث عن هذه الحرفة هو استعادة لمشهد طويل من التاريخ الاجتماعي والثقافي، وتجديد لرؤية معاصرة تبحث عن سبل استدامة هذا الفن العريق في زمن تتسارع فيه الآلات وتتقلص فيه المساحات الممنوحة للعمل اليدوي. جذور قديمة ارتبطت المشغولات الجلدية في الجزيرة العربية بحياة البدو والحواضر على السواء. فمنذ القدم كان الجلد مادة لا غنى عنها في صناعة الأدوات اليومية؛ يُصنع منه القرب لحفظ الماء، والأحذية للترحال الطويل، وأغلفة الأسلحة، وأحزمة الزينة، بل وأغطية الكتب والمصاحف. وقد عُرِفَت مناطق مثل نجران وعسير والحجاز مهارة خاصة في معالجة الجلود ودباغتها بوسائل طبيعية تعتمد على النباتات والزيوت المحلية. ولئن كانت الأسواق الكبرى في مكة والمدينة محطة رئيسة لتصريف هذه المنتجات، فإن الورش الصغيرة في القرى والبوادي احتفظت بأسرار المهنة وورّثتها جيلاً بعد جيل. كانت هذه الحرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحياة الاجتماعية؛ فالعروس تُهدى حقيبة جلدية منقوشة، والفارس يزين فرسه بسرج مكسو بالجلد المحفور، والشيخ يضع بين يديه محبرة جلدية، بينما يضع المسافر قربته على كتفه ليستعين بها في سفره الطويل. كل قطعة تحمل مزيجًا من الوظيفة والجمال، وتُترجم براعة اليد التي صنعتها. مواد أولية وتقنيات دقيقة لا يمكن الحديث عن المشغولات الجلدية دون التوقف عند المواد الخام التي شكلت أساسها. فالجلود المستعملة في المملكة تنوعت بين جلود الإبل المعروفة بمتانتها وقدرتها على مقاومة الظروف المناخية القاسية، وجلود الأبقار والأغنام التي تميزت بالليونة وسهولة التشكيل، بل إن بعض الصناع استعانوا بجلود أصغر حجمًا كالماعز والأرانب في بعض المشغولات الدقيقة. عملية الدباغة كانت وما تزال قلب الحرفة. حيث ينقع الحرفي الجلد في الماء أيامًا، ثم يعالجه بالزيوت النباتية، ويعرضه للشمس حتى يجف، ليصبح جاهزًا للقطع والتشكيل، ولأن الجلد مادة صعبة المراس، فإن التعامل معه يتطلب دقة وصبرًا، فالخطأ في القطع قد يُفسد قطعة كاملة. أما الأدوات، فقد تراوحت بين السكاكين الحادة لقطع الجلد، والمطارق الخشبية لتسويته، والإبر الكبيرة لخياطته بخيوط قوية من الكتان أو القطن. وفي بعض المناطق كان الحرفيون يزخرفون الجلد بالنقش أو الحرق، فتغدو القطعة تحفة تجمع بين المتانة والفن. بين الندرة والبقاء ما أنتجته هذه الحرفة متنوعًا ويعكس احتياجات المجتمع في كل زمان ومكان. فقد صُنِعَت منها الأحذية التقليدية والحقائب والجوابر التي استُعملت لحفظ النقود أو الوثائق، والأحزمة المزخرفة، وظلّت القِرب الجلدية لحفظ الماء واللبن رمزًا أساسيًا للحياة اليومية، كما ازدهرت صناعة الأغلفة الجلدية للكتب والمصاحف والمسابح، ولطالما كانت حرفة المشغولات الجلدية مصدر رزق لعدد كبير من الأسر، حيث توافرت الجلود بحكم تربية الإبل والمواشي، لذا فقد جسّدت هذه الحرفة جانبًا من الهوية السعودية، فهي تعبير عن الاعتماد على الموارد المحلية، وعن البراعة في تكييف المادة الطبيعية مع متطلبات الحياة. غير أن هذه الحرفة لم تسلم من التحديات. فمع دخول المنتجات الصناعية الرخيصة إلى الأسواق، وتوفر الأحذية والحقائب المستوردة بأسعار زهيدة، تراجع الإقبال على المنتجات الجلدية اليدوية. كما أن عمليات الدباغة التقليدية واجهت قيودًا بيئية وصحية حدّت من ممارستها بالشكل القديم. إلى جانب ذلك، عزف كثير من الشباب عن تعلم الحرفة، بحثًا عن وظائف أكثر استقرارًا أو مردودًا ماليًا أكبر، وهو ما أدى إلى تقلص أعداد الحرفيين. ومع ذلك، ظلّت قلة مخلصة متمسكة بأسرار الصناعة، تدرك أن الحفاظ على الحرفة هو حفاظ على جزء من هوية المكان. توثيق وإحياء في إطار رؤية المملكة 2030 وما تضمنته من عناية بالتراث المادي واللامادي، وإعلان عام 2025 عامًا للحرف اليدوية، أولت وزارة الثقافة وهيئة التراث اهتمامًا بالغًا بحرفة المشغولات الجلدية. فقد أُدرجت ضمن قائمة الحرف ذات الأولوية، وأطلقت برامج تدريبية للشباب، وورش تعليمية إلى جانب معارض متخصصة ومبادرات لتسويق المنتجات محليًا وعالميًا، وهذه الفعاليات لم تكن مجرد ترويج للمنتج، بل منصة للتوعية بقيمة التراث وتشجيع الجيل الجديد على استعادته. وفي الوقت ذاته، شجعت الجهات الرسمية الحرفيين على تطوير تصاميم عصرية وإكسسوارات جلدية حديثة، مع الحفاظ على الروح التراثية. إذا كانت المشغولات الجلدية قد وُلِدَت من رحم الحاجة، فإن مستقبلها مرهون بالقدرة على المزج بين الأصالة والابتكار. إن تحويل هذه الحرفة إلى صناعة ثقافية معاصرة، تتبناها المتاجر الكبرى وتعرضها المنصات الإلكترونية، سيمنحها حياة جديدة. ونحن حين نتأمل قطعة جلدية مصنوعة بعناية، فإننا لا نرى مجرد منتج مادي، بل نلمس في ثناياها قصة الإنسان السعودي الذي عرف كيف يحوّل المورد البسيط إلى فن خالد، وكيف يكتب في ذاكرة المكان فصلًا جديدًا من حكاية الإبداع.