في «أطياف الذاكرة»للفنان العراقي (جعفر طاعون)..

صورة الزمان والمكان وذاكرة الهجرة.

في تجربة الفنان العراقي (جعفر طاعون) بمعرضه «أطياف الذاكرة» الذي أقيم مؤخرا بمركز الفنون- بالبحرين/ المنامة، تُأرجحك تجربته البصرية داخل مسافات متعددة. يباغتك البعد بتجريدات لونية هائمة تستدعي حميمية الذاكرة والبدايات: الوجه الأول، النافذة الأولى، والتخيلات الأولى داخل انعكاسات اللون على الجدران في اصطياد الطفولة للشكل المألوف، فتنتقل بين الماضي والحاضر,. لكن ما إن تتوغل أكثر، حتى تنقلب المعادلة: فما بدا فضاءً لونيًا متداخلًا ومفتوحًا، يتحول في القرب إلى شبكة من الخطوط السوداء المتقطعة التي تصنع مزيجًا من الوجوه والأشكال التجريدية المتداخلة. ومع القرب عليك أن تنضج، فأنت تقطع شوطك بين الزمان والمكان وتحرر ماضيك المألوف بحاضرك الخفي. في هذه الرحلة يختزل الفنان النصوص الزمكانية في بنية حداثية معاصرة، تستعير من النسبية انفتاحها على الزمن، ومن التكعيبية جرأتها في التفكيك وإعادة البناء، ليخلق ثيمات متعددة تتشابك فيها أطياف الذاكرة الشخصية مع أطياف الذاكرة الجمعية، في مواجهة الماضي لتحريره من سكونه ثم تحيله إلى صورة حية تتجاوز ثيمات الرحيل والمنفى والانتماء. ذاكرة الهجرة ومن هنا يطفو سؤال ذاكرة الهجرة، فمن يعش تجربة الهجرة يدرك أن الذاكرة ليست مخزنًا ساكنًا، بل كائن متحرك، ينهض أحيانًا كطيف ويغيب أحيانًا أخرى. طاعون، المولود في البصرة والراحل إلى السويد منذ التسعينيات، يستحضر هذا الهاجس في أعماله: كيف نحمل أماكننا الأولى معنا، وكيف تتحول مع مرور الوقت إلى صور مهشّمة تتطلب إعادة تركيب بصري. في «أطياف الذاكرة»، تتجلى هذه المفارقة: الذاكرة مأوى، لكنها أيضًا قلق؛ استعادة، ولكنها كذلك تفكك وإعادة صياغة. يتجلى ذلك في إحدى اللوحات اللافتة، حيث تتوزع مساحات حمراء وزرقاء تتخللها خطوط سوداء حادة. من بعيد تراها كحقل لوني خالص يذكّر بالتجريد التعبيري، لكن حين تقترب تتضح تفاصيل تشبه نوافذ ووجوهًا مبعثرة، كأنها أطياف أناس رحلوا أو أماكن فقدت معالمها. بهذا يربط طاعون بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، فيجعل المشاهد شريكًا في إعادة بناء الصورة. وهكذا يصوغ طاعون رحلته ليتبدى المعرض كتجربة بصرية/فكرية مزدوجة: المشاهد يمر بين حقلين؛ حقل الذاكرة وما يثيره من استدعاءات، وحقل المعاصرة بما يطرحه من أسئلة عن الهوية والانتماء وعلاقة الماضي بالحاضر. فهو لا يقدّم مجرد استعادة لصور شخصية، بل يحوّلها إلى أطياف عابرة تُغري بالاقتراب ثم تُعيدك إلى مسافة جديدة، وكأنك تعيش تجربة الذاكرة بوصفها طيفًا لا حقيقة مكتملة. وما يمنح تجربة طاعون قوتها هو هذا التوتر بين المحلي والكوني. فهو يستعير من ذاكرة البصرة ألوان أسواقها وطقوسها الشعبية وتاريخها، لكنه يعيد صياغتها بلغة معاصرة تجعلها مفهومة في أي سياق عالمي. اللون هنا ليس زينة بل حامل لذاكرة الهوية، والخط الأسود ليس مجرد رسم بل حدّ فاصل بين زمانين ومكانين. بهذا يصبح «أطياف الذاكرة» محاولة وتجربة وجودية لتأثيث الفراغ بين الماضي والحاضر، وإعادة تعريف الذاكرة لا بوصفها أرشيفًا، بل كطيف متجدد يعيد تشكيلنا في كل اقتراب.. *فنانة وكاتبة