 
          هي حياة قد تطول أو تقصر، يتخبط فيها الانسان بين مصيرين هما الموت والولادة وفي الحالتين لا خيار له! تتشابه كثيرا فصول البداية والنهاية، يبدو المرء ضعيفا بحاجة للمساعدة في شأنه كله، لكنه حين الموت يكون عاجزاً سبق له أن عرف المقدرة وهذا جحيم لا يطاق، تلك اللحظة التي يحتاج فيها الشخص للمساعدة في أبسط شؤونه الشخصية، يصبح كمن يتأرجح يومياً ما بين الموت وحياة ممزقة هي إلى الموت أقرب. من هنا جاءت فكرة الموت الرحيم والتي ما تزال مثار الجدل في الكثير من دول العالم، لكنها مطبقة بشكل رسمي في دول أخرى، والتي ترى أحقية الإنسان المصاب بداء عضال _لا يرجى برؤه_ في تقرير مصيره واختياره لطريقة الموت بلا ألم بدلاً من البقاء بلا معنى . وقد تناول فيلم “”You Don’t Know Jack هذه القضية من خلال فيلم السيرة الذاتية للطبيب “جاك كيفوركيان” المسمى بطبيب الموت والذي ناضل حتى آخر حياته من أجل تشريع الموت الرحيم، وبالرغم من المعارضات والرفض إلا أنه استطاع مساعدة أكثر من مئة وثلاثين شخصاً على الانتحار الاختياري من خلال آلة معينه قام بتصميمها، والتي تحمل مصلاً بإمكانه إيقاف عضلة القلب بعد أن يتم تخدير المريض ليفارق الحياة دون ألم. طرح دكتور جاك الفكرة كمخرج من الحياة بكرامة وتخفيف العبء عن عائلات المرضى وذويهم، وكذلك لشرعنه قانون يكفل الحق للمواطن في تقرير مصيره، إلا أنه وجد نفسه مرة تلو الأخرى مداناً بالقانون وموقوفا، ليتحول الى مناضل وثائر يحارب للخروج من الظلمات الى النور. قد تتفق أو تختلف مع رؤية هذا الرجل لكن لنتفق جميعا أن “ال بتشينو” قام بآداء عظيم في هذا الفيلم، في واحد من أجمل أدواره وبعبقرية لم يعترضها الزمن. الفيلم يروي السيرة الحقيقية للطبيب الأمريكي جاك كيفوركيان (Jack Kevorkian) المعروف بلقب Dr. Death أو طبيب الموت، الذي أثار جدلاً واسعاً في التسعينيات بسبب ممارسته القتل الرحيم أو المساعدة على الانتحار للمرضى الميؤوس من شفائهم، هو لا يقدمه كـمجرم ولا كـقديس بل كشخص يطرح سؤالاً حول المصير، ويتساءل ألا يملك الإنسان الحق في اختيار موته حين يفقد معنى حياته؟ لهذا يتناول الفيلم الصراع الأزلي بين الرحمة والواجب الطبي، بين القانون والضمير، “جاك كيفوركيان” يرى في الموت راحةً للذين يعانون، بينما المجتمع والقانون يريان في ذلك تعديًا على حدود الحياة، حيث تطرح فكرة أن الموت ليس نقيض الحياة بل جزءاً منها، وأن الإرادة الإنسانية يجب أن تمتد إلى اللحظة الأخيرة من الوجود. الفيلم متماسك وبناؤه يعتمد على تطور الشخصية لا على الحدث، يتحول جاك من طبيب هادئ منعزل إلى شخصية جدلية تواجه النظام القضائي والإعلام، وتصبح رمزًا للتمرد الأخلاقي، السيناريو ينسج الحوارات بعمق فلسفي بعيد عن الخطابة، ويجعل المشاهد شريكًا في التساؤل لا متلقيًا لإجابات جاهزة، الفيلم يستخدم الإضاءة الباردة والألوان الرمادية للدلالة على برودة العالم تجاه معاناة البشر، الموت في الفيلم ليس مخيفا بل يُقدَّم كـتحرر من الآلام، ويقدم كخلاص، في حين يُظهر الحياة أحيانًا كسجن طويل من الألم، حتى اسم الفيلم “You Don’t Know Jack” يحمل معنى مزدوجًا أنت لا تعرف هذا الرجل، أي أنك لا تفهم عمق القضية، (آل باتشينو) يقدم أحد أعمق أدواره في الألفية الجديدة بعيدًا عن الانفجارات الانفعالية التي اعتدناها منه، فهو يتقمص الشخصية ببرودٍ فلسفي يلامس الغرابة بوجه جامد ونظرات حادة وصوت خافت لكنه قاطع، يخلق ال باتشينو توازنًا مذهلًا بين الطبيب العالم والإنسان المنكسر، بين منطق العلم وعاطفة الرحمة، وقد نال عن دوره جائزة الإيمي وغولدن غلوب لأفضل ممثل. أما الإخراج ل”باري ليفنسون” والذي يقدم الفيلم بأسلوب شبه وثائقي يبتعد عن الميلودراما، ويركز على الواقعية السياسية والطبية، الفيلم يركز على معنى الكرامة الإنسانية أمام المرض والمعاناة، وحدود سلطة الدولة على الجسد الفردي ويتساءل هل الرحمة قد تكون في إنهاء الألم أم في تحمّله؟ وهل الطب أداة للحياة فقط أم لفهم الموت أيضًا؟
