عند الجسر .

(الجسر): القنطرةُ ونحوُها ممّا يُعبر عليه،…والحدُّ الفاصلُ بين أرضين. (المعجم الوجيز) قلقلةُ المفتاحِ في قفلِ البابِ  أشعرتها بقدومه. أسرعت تُقلّبُ الطبيخَ على النار، وبالسرعةِ ذاتِها مسحت يديها في المنشفةِ المطروحةِ على خوان الطعام. ولجَ الدار وأغلق البابَ خلفه، فأقبلت عليه بجذلٍ لا يُخفى. ــ لمَ تأخّرتَ كلَّ هذا الوقت؟ ــ المعذرة ! لقد نسيتُ أن أُخبركِ بأنّ اليوم كان موعدَ اجتماع الأهالي مع مجلسِ البلدية، واضطررتُ للبقاء حتى انتهاء الاجتماع. ولا أستطيع أن أغادر وهناك أناسٌ في المبنى. ــ اجتماع؟ -  أجل، اجتماعٌ عاصفٌ صاخب، اشتكى فيه الأهالي بغضب من تزايد حالات الانتحار من فوق الجسر، وطالبوا بإجراءات وقائية فورية. لكنّ المجلس أوضح أن الجسر يتبع لإدارة البنية التحتية، ومع ذلك وعد بالسعي للتنسيق معها لوضع لافتاتٍ إرشادية وكاميراتٍ مراقبة على طول الجسر. ــ يا إلهي! يحقُّ لهم ذلك، لقد أصبح الأمرُ مرعبًا في الفترة الأخيرة. ــ إني تعبٌ وجائع. ــ هيا، استرحْ! سأضعُ الطعامَ الآن، فهو على وشكِ الانتهاء. ــ أين الصبيّ؟ ــ فوقَ في غرفته. ــ ألم يذهبْ إلى المدرسة؟ ــ للأسف، لم يذهب، وموصدٌ بابُ غرفته. ــ لقد زاد في عناده أكثرَ مما يجب. *** مدّ يده إلى الصحن بتعبٍ، تناول الطعامَ ببطءٍ، لقيمات يلوكهُا لوكًا. توقّف، رفع رأسه ورمقَ زوجتَه ثم قال : ــ ما الحلُّ مع هذا الصبيّ؟ ــ علينا أن نواصل الحديثَ معه، لابدّ من الصبر يا حبيبي. وفي هذه الأثناء، نزل الصبيُّ الدرجَ وهو يُغلق سحّابَ معطفه، فناداه الأب: ــ ألا تأكل؟ ــ لا! ــ هل لنا أن نتحدّث قليلًا؟ ــ كلا! وأسرعَ في مشيه نحو الباب، وخلفَ وراءه صوتَ ارتطامٍ صم الأسماع. التفت  إلى زوجتهِ قائلًا بلوعة: ــ سيقتلني هذا الصبيّ!  ***  في صباحٍ تالٍ مقموعِ الطلعةِ ومُجهض البهاء بعنادِ غيمِ تراكم وصلف ضباب مخبول، أيقظت الزوجةُ زوجها قبل موعد رنين ساعة منبهه، قائلةً بفزعٍ: • الصبيَّ لم يعد إلى الدارِ منذ البارحة. نهض بجزعٍ، وارتدى ملابسَه على عجلٍ، وهو يُحدّث نفسه على وقع وجيب قلبه: أرجو اللهَ ألا يكون عند الجسر! ***  بلغ الجسرِ بسرعة،  وأخذ يذرع ضفتيه جيئةً وذهابًا ، في كل خطوة يخطوها يُطلّ برأسه أسفل النهر ويلتفت إلى شقيه اليابسين، وبعينين مذعورتين، ينفضُ كلَّ موضع فيه .جف حلقه وتلفت أعصابه فخارت قواه، وشعر بتصدّع ركبتيه، فاتكأ بيأسٍ على سياجِ الجسر وانحدر عائدًا إلى الدار. وفي طريقه، عند مبتدأ المنحدرِ الفاصلِ بين البلدةِ والجسر، مرَّ بدكّان القرية. سأل البائعَ عمّا إذا كان رأى الصبيّ، فأجابه بالنفي، ثم هز رأسه مضيفاً : •لم أره منذ عدة أيام ، يا سيدي. *** قلقلةُ المفتاحِ في قفل الباب أشعرت الزوجةَ بأنه قد عاد. تلقّته متهلّلةً : ــ لقد عاد، عاد الصبيّ! إنه في غرفته. صعد من فوره إلى غرفة الصبيّ، طرق البابَ عدّةَ مراتٍ. التصق  بالباب، أطبق يده على فمه ليحبس جهشاً كاد أن يندلق، وقال متوسّلًا: بنيّ، إنك تقتلني! لمَ تفعلُ ذلك؟ كدتُ أُصابُ بالشلل. أما آنَ لكَ أن تعقل؟ تحشرج صوتُه وسكت، ثم قال: أرجوكَ يا بنيّ، استمع إليّ! كانت ظلمةُ الممرّ أمام الغرفةِ، والصمتُ المطبقُ، يُشكّلان مشهدًا من كآبة. *** في يومٍ ليس بعيدًا، إذ جنّ الليل، ولم يقلقل قفلُ الباب… خرجت الأمُّ تحثّ الخطى نحو مبنى البلدية، فكان المبنى مظلمًا ومغلقًا. بيدين معقودتين على صدرها وقفت في باحة البلدية تحت المصابيح البخيلة تتلفت بوجه قد شحب وقلب انقبض ؛ بدت كطفلةٍ تائهةٍ لا تعرفُ ماذا تفعلُ ولا تدري مَن تسأل. هرعت إلى الدار، صعدت إلى غرفة الصبي وطرقت بابَه، واخذت تتوسل إليه أن يخرجَ ليبحثَ عن أبيه. وقبل أن يطفح اليأس من كأس صبرها، فتح الصبيُّ الغرفةَ مرتدياً ملابسَه ، وخرج على عجل. جلست الأمُّ على قلق قبالةَ النافذةِ الكبيرة، تقضم خنصراً وبنصراً ، ترقب الطريقَ المقفر. مرّ الوقتُ ببطءٍ قاتل، وإذا بالصبيّ بناصيةِ الشارعِ يدلفُ صوب الدار. فتحت البابَ على عجلٍ ووجلٍ وسألته صارخة: ــ هل وجدته؟ طوّح بيديه في الهواء، وزمّ شفتيه ، وكور كفيه حول فمه وصاح : لا يا أمي، ولكن البائعَ يقولُ إنه رآه يسيرُ صوبَ الجسر…