سادن الحكايات وشقيق الكلمة النبيلة.

إن غاب الجسد، فلا يغيب الأثر. هكذا هو جبير المليحان، الأديب الذي ما برح حضوره يضيء مشهدنا الثقافي، ويمنح السرد روحه، والكتابة دفئها، والإنسانية معناها. منذ ما يقارب نصف قرن، ظلّ أبو أيمن كما عُرف: ثابت القيم، صادق الانتماء، مخلصًا للفكر وللكلمة وللناس. انحاز إلى الحداثة اختيارًا أخلاقيًا لا مظهرًا عابرًا، وشقّ مع رفاق دربه – علي الدميني، شاكر الشيخ، عبدالعزيز مشري، محمد الثبيتي، وغيرهم من رموز تلك المرحلة – مسارًا ثقافيًا جسورًا وواعيًا، شكّل وجه الأدب السعودي الحديث في السبعينيات والثمانينيات. ولد في حائل، لكن روحه استقرّت في الشرقية، حيث تقاطع عمله التربوي في التعليم مع عطائه الثقافي، فكتب القصة والرواية، وأسس موقع “شبكة القصة العربية” عام 2000، ورأس نادي المنطقة الشرقية الأدبي لخمسة أعوام. وهناك، بصبر المعلم وهمّة العاشق، رعى أجيالًا من الكتّاب، فتح لهم الأبواب، وأوصل أصواتهم قبل أن يرفع صوته. جبير المليحان لم يكن طيفًا في المشهد الثقافي، كان أحد أعمدته الباسقة، يحمل انضباطًا في العمل، وتواضعًا نادرًا، وبساطة إنسانية آسرة. من لا يعرفه من قرب، يلمح أثره في كل ركن من أركان السرد السعودي، في كل موهبة دعمها، وكل نصّ ألهمه. امتد عطاؤه بين أدب الطفل والقصة والرواية، ومن أبرز أعماله: الهدية، الوجه الذي من ماء، ج ي م، أبناء الأدهم، سيرة الصبي، مراجيح بشرية، أول القرى. وبهذه الأعمال نال التقدير، فحصل على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للرواية عام 2017، التي نالها في ذات العام أيضًا رفيق دربه الشاعر علي الدميني عن فرع الشعر. في رحيله، نشعر كما لو أن زهرة نادرة انطفأت فجأة، لكن عبيرها ما يزال عالقًا في الهواء، في المكتبات، في رسائل البريد الإلكتروني التي كتبها بعناية، في المبتدئين الذين شجّعهم يومًا، وفي الحكايات التي ما تزال تُروى بصوته حتى بعد غيابه. جبير المليحان هو من كتب دفاتر القصة بمداد المحبة والبصيرة. هو ظلّ الشجرة التي لا تنكسر، والنسمة التي تهدهد الأرواح بلطف. رحم الله ذلك القلب الذي لم يعرف القسوة، وذلك القلم الذي لم يساوم على صدقه، وذلك الإنسان الذي يشبه الحكاية حين تُروى بأمانة وحنين. في يوم وداعه إلى مثواه في مقبرة الدمام، كان الحضور مهيبًا، يليق برجل عاش كبيرًا في عيون محبيه. العائلة، الأصدقاء، الرفاق، الأجيال التي أحبته ولم تره… اجتمعوا تحت سماء واحدة، ليقولوا له: شكرًا، وداعًا، لن ننساك. سيبقى جبير المليحان حيًّا في الذاكرة الثقافية، كما يبقى طيب العطر بعد زوال الزهر. سيظل اسمه يتردد في المجالس، وتُروى سيرته على ألسنة المبدعين، وتُقرأ قصصه بشغف الصباح الأول. رحم الله جبير المليحان. أيها الأديب الحقيقي … غبتَ، لكنّ حضورك لا يُغيب.