يلمعُ في فراغ العتمة.

رحل، فارتعش في الذاكرة رجع القصص، وخمد مصباح كان يبدّد ظلام العابرين في متاهات الكلام، واهتزّت في الروح أصداء الحكاية، وأُطفئت نار كانت تُدفئ المسافرين في برد السرد. غاب، فتشظّت مرايا الحكايات، وانكسرت نجمة كانت ترشد التائهين في ليل القصّ، وانسابت أمواج الأساطير، وغاب سراج كان يفتح للمارّين أبواب الضوء في عتمة الحروف. يقول الرواة: إن رجلًا خرج من ديار الشمال، من أرضٍ ينهض فيها جبلان كحارسين للحب المصلوب. حمل في صدره رماد الأسطورة، وجاء به إلى الشرق، كمن ينقل سرّ النار الأولى ليحرسها من العدم. كان يمشي بين الناس وفي يده كتاب، صفحاته من هواء البحر، وحروفه من ملح الغيم. كلما فتح الكتاب، انبعثت حكاية جديدة، تتساقط كالنور في دروب المبتدئين. لم يكن يوقّع اسمه على الصفحات، كان يتركها بلا ختم، كأنها وجدت لتُعاش لا لتُنسَب. قال بعضهم: «هو عابرٌ منسيّ، لا يملك غير صدى»، لكن صوته كان ماءً يتدفّق في صمت، يسقي أراضي جافة، ويجعل الكلمات تنبت على أفواهٍ يابسة. وقال آخرون: «إنه بنى بيتاً من وهمٍ على الشبكة الخفية»، لكنّه كان صرحاً أوسع من مدن، تعبره قوافل الحكايات، ويأوي إليه التائهون من بيداء اللغة. كان الليل يثقل عليه، قلبه مثل طائرٍ بجناحٍ مكسور، لكنّه ظل يطير. يعرف أن الرحلة طويلة، وأن الدم لا يمضي في عروقه إلا بمعجزة، ظلّ يُعلّم الورق كيف يحتمل الوجع. كان، وهو يتألم، يبتسم، كأنما الألم جزءٌ من العقد الذي وقّعه مع السرد. وحين جاءه الرحيل، لم يأتِ كموتٍ عادي. جاء كظلٍّ يزحف من بين الجبال، يذكّره بالعاشقين المصلوبين على صخور الخلود. جلس الموت قبالته كرفيقٍ قديم، وقال له: «لقد كتبتَ ما يكفي، دعني الآن أكتبك أنا» فأغلق كتابه غير المكتوب، وأسلم نفسه للغيبوبة، مثل ساردٍ يترك جملته معلّقة، ويعتمد على القارئ ليكملها. منذ ذلك اليوم، صار البحر في الشرق يفتقد فناره، وصارت الحكايات تُيَتم إذا لم تُذكر باسمه. لكنه ما زال حيّاً في الغيم، في الريح التي تعبر الجبال، في أصوات الموهوبين الذين يكتبون بلا خوف، لأنهم وجدوا ظلّه يحرس خطواتهم. إنه العاشق الذي جاء من الأقاصي، وظلّ قلبه يكتب حتى آخر نبضة. وإنه المشعل الذي لا ينطفئ، بل يوزّع ضوءه في الظلال. - رحلتُ من الشمال حيث «أجا وسلمى» يحرسان الحكاية بالدم، وحيث العشق يُصلب على الصخور ليصير جبلاً، لا ذكرى. حملتُ في دمي رمادَهما، وأشعلتُ به قلبي، فكان منذ البدء قنديلاً مشروخاً، يضيء رغم أن الريح تتناوبه ليلاً ونهاراً. لم أختر العطب، سوى أنه التقطني مبكراً، وغرس في قلبي دعامة من معدن بارد. واصطفاني يتيماً من عافيتي، وترك في قلبي صمّاماً من فولاذ يصون نبضي. ولم يكن خياري أن أضعف إذ باغتني الوجع، وسكنني المرض، ومنذ ذلك اليوم وأنا أتعلم كيف أكون نصف إنسان ونصف آلة، كيف أفتح صدري للجراح، وأغلقه على قصيدة. كل نبضة عندي كانت اتفاقاً مؤقتاً مع الحياة، وكل نفس وعداً مهدداً بالغياب. ومع ذلك لم أشكُ، لم أصرخ، لم ألعن أحداً؛ كنت أرى الألم معلمي الأجمل، يعلّمني الصبر كما يعلّم البحرُ الصخرة معنى الثبات. حين جئتُ إلى الشرق، استقبلني البحر كما يستقبل غريباً يعرف أن عمره قصير. هناك، عند الموج، فتحت نافذة للسرد. لم تكن من خشب ولا حجر، بل كوة من ضوء، يدخلها كل من يطرق، بلا حارس ولا شرط. تركتُها مشرعة، لأني أعرف أن الحكايات لا تحيا إلا في الهواء الطلق. كنتُ أرقب الناشئين وهم يتلعثمون بالكلمات، فأمدُّ لهم قنديلي، أضعه على الطاولة، ثم أنسحب. لم أرد أن أكون بطلاً في عيونهم، أردت فقط أن تنبت لهم أجنحة، أن يحلقوا في سماوات لم أصل إليها. كنتُ سعيداً أن أظل مجهولاً، أن أبقى ظلاً في الهامش، بينما نصوصهم تتوهج في المتن. كان جسدي يخذلني، يكرر خيانته كل عام. القلب يتجلط، الدم يتعثر، الدماغ يصرخ. لكني كنت أضحك، أضحك وحدي في الليل، أقول لنفسي: «ألن تملّ من مطاردتي أيها الموت؟» كأنني عاشق يتغنج أمام قاتله. كنتُ أعرف أن النهاية قادمة، لكني لم أتذمر، لم أعتب على أحدٍ، حتى الذين تركوني وحدي في معركة الكلمة. كنتُ أرى أن الشكوى تُطفئ الأمل، وأنا لم أشأ أن ينطفئ ضوئي قبل الوقت. وحين جاءني الرحيل، جاء كالعادة: بلا موعد، بلا اعتذار؛ تسلّل إلى صدري، وطرق باب الدماغ، وأغلق النوافذ كلها دفعة واحدة. وجدتني أغفو في بياض الغيبوبة، لا أدري أكنتُ نائماً أم عابراً إلى جهة أخرى. لم أسمع بكاء، لم أرَ وجهاً. سمعت فقط صوت البحر يتمتم باسمي، وصوت الجبال في الشمال تقول: «لقد عاد العاشق إلى موطنه.» هو ذا أنا أترككم الآن مع مصباحٍ يظلّ يشتعل في العتمة، لا ليدلّكم على الطريق فحسب، بل ليذكّركم أن الحكاية لا تُدفن مع صاحبها. إن سمعتم الليل يهمس عند أطراف البحر، فذلك صوتي، وإن رأيتم الجبال تشهق بظلالها، فتلك أنفاسي التي لم تنقطع. وإن أبصرتم جذوةً في عتمة السرد، فاعلموا أنني ما زلت هناك، أضحك من قلبٍ مكسور، وأكتب من وراء الغياب. أمضي كما يمضي العاشق إلى موعده الأخير، أترك ورائي نثار حروف، وبقايا قصص لم تُكتب بعد، وأجيالاً من الساردين الذين أضاءوا شموعهم من ناري. لم يعد يهمّني إن عرفت الأسماء أو اندثرت، فكل ما أردته أن تبقى الكلمة حيّة، وأن يظلّ السرد جسدًا يتنفس في صدوركم. ستقولون: غاب، ولن يعود. لكنّي باقٍ في كل نافذة تُفتح على لغة، في كل شاب يضع جملته الأولى على الورق، في كل امرأة تفتّش في الصمت عن صوتها. إن أردتم لقائي، لا تبحثوا في القبور، بل في نصوصٍ تُكتب الآن، في قصةٍ تُروى غداً، في قلوبٍ لم تُغلق بعد على الخوف. لقد علّمني المرض أن أكون خفيفاً، مثل ورقة في الريح. لا أثقل أحداً بوجعي، ولا أرهق أحداً بظلي. ولذا أمضي كما عشت: صامتاً من الخارج، محتشداً من الداخل، متوهّجاً بما لا يُرى. سلامٌ عليكم أيها الأصدقاء الذين لم أسمِّهم يوماً، والذين أحببتهم دون أن يعرفوا. سلامٌ على الحكايات التي رافقتني كأطفالٍ يتامى. وسلامٌ على القنديل، ما دام ينبض في العتمة، وما دمتم تقرأون. ها أنا… أودعكم وطيفي يتأرجحُ في آخر الممرّ. – قنديل؟ أم وَهمٌ يلمعُ في فراغ العتمة؟ – قنديلٌ لا يعرف النار، بل يشعّ من صدى الخطى التي لم تَصل. – وما يتركه الغيابُ غيرُ ضوءٍ يتأرجحُ في ريحٍ غريبة؟ – الغيابُ هو البابُ الذي يبتلعني… ومع ذلك أضعُ عند عتبتهِ صوتي، كي لا يضيعَ كلّه. كأنني أُردّد ما لا يُقال، أتعثّرُ بزوايا الكلام، وأترنّحُ مثل ظلٍّ عالقٍ بجدارٍ لا يعترف بي. أُفلتُ من نفسي… أم أنّ نفسي هي التي أفلتتني وتركتني مُعلَّقاً بين قنديلٍ وأثرٍ لا يُرى؟ يتوكّأ على ظلّه كمن يعبر جسراً لا ينتهي. يجرّ خلفه أوراقاً تذروها الريح، أوراقاً كانت يوماً قصصاً، ثم صارت هباءً يتلألأ تحت قنديلٍ بعيد. كلما أراد أن يلتقط سطرًا، انسلّ من بين أصابعه مثل ماءٍ لا يثبت في الكفّ. في أقصى الحكاية خرجت سلمى، لم تعد مجرّد بطلة على الورق، بل انبثقت من النص مثل نبعٍ يتدفّق من صخرةٍ صامتة. أقبلت نحوه بخفّةٍ تليق بالأسطورة، ووضعت يدها على كتفه المنهك. كانت تعرف أنّه يتآكل ببطء، وأنّ صمته ليس إلا لحماً يُستهلكه الدود من الداخل. نادته: عُد! ليس إلى البيت ولا إلى الناس، بل إلى المرج الذي ركضتَ فيه طفلاً، إلى رائحة الحصى حين يغمره المطر، إلى الجبلين اللذين يحرسهما الغيم كوصيّين أبديين... . هو تردّد. كان يخاف أن ينكسر القنديل إذا التفت. لكنه لمح وجهها يطفو مثل طيفٍ من زمنٍ لم يعشه كاملاً. بدا له أنّ الموت نفسه يتأخّر قليلاً كي يمنحه فرصة أن يسمع هذا النداء الأخير. مدّ يده إلى الفراغ، فلم يجد غير برودةٍ غامضة. عرف أنّ سلمى ليست سوى صدى من رواياته، وأنها عادت لتستدرجه إلى الورق حيث يولد كل شيء ويموت كل شيء. ابتسم ابتسامةً شاحبة، وأغمض عينيه. عندها انطفأ القنديل، وسقط البطل في العتمة، تاركاً خلفه حبراً يتسرّب من دفاتر مبعثرة… كأنّ موته لم يكن سوى استمرارٍ للحكاية.