رواية العار لإميل زولا ..

صراع النفس والندوب التي لا تُشفى.

تعيش بعض الهدايا إلى الأبد، لا لأنها كانت فاخرة أو نادرة، بل لأنها لامست شيئًا داخليًا يصعب وصفه. ومن بين هذه الهدايا التي حظيت بها رواية العار للفرنسي إميل زولا، التي تلقيتُها من أحد الناشرين الأصدقاء. لم تكن مجرد رواية، بل تجربة شعورية متكاملة، ظلت تتردد في داخلي طويلًا، كأنها كشفت لي شيئًا لم أكن أعرفه. بداية ركّزت الرواية على أربع شخصيات رئيسية: جيليوم، مادلين، جاك، وجنييف، وبالرغم من أن الشخصيتين الأخيرتين حضرتا في مساحة أقل، فإن وجودهما كان مؤثرًا وفعّالًا في بناء الحالة النفسية لبقية الشخصيات. كما ظهرت شخصيات عامة أخرى بشكل عابر، لكنها لم تكن عبثًا، بل أضافت للرواية طابعًا مجتمعيًا جعل القارئ يعيش داخل ذلك العالم، فيشعر أنه ليس مجرد متفرّج، بل جزء من الحدث، منسجمًا مع صراعاته وتفاصيله. وكان أن أضاء زولا ببراعة الصراع الداخلي الذي يتولد من خطيئة قديمة، أو من موقف لم يكن كما ينبغي، وكيف يمكن لهذا الشعور أن يتحول إلى ندبة داخلية لا تزول، مهما مرّت السنوات، مسلطًا الضوء على تعقيدات الإنسان حين يواجه العار، ليس كمفردة، بل كإحساس ثقيل يستقر في القلب والعقل معًا. كما تناول زولا أثر الذاكرة في حياة الإنسان، فهي ليست دائمًا وعاءً محايدًا لتجاربنا، بل قد تتحول إلى عبء خانق، إذ تصبح بعض الذكريات وبالًا على صاحبها، تلاحقه بالألم والصداع، ويغدو أقصى ما يتمناه أن يتحرر منها. ومما كشفه زولا تناقض الإنسان مع نفسه، فنجده يجاهد ذاته في أمر، بينما يتهاون في آخر أكثر منه، يثور داخليًا بينما يبدو هادئًا في الخارج، يعاقب نفسه بصمت لأن المجتمع رسخ بداخله أنه يستحق العقوبة. تسللت الرواية إلى داخلي بسلاسة، صفحة بعد صفحة، حتى أصبحت كأنها مرآة لما يعيشه كثيرون دون أن يعبّروا عنه، فهي ليست مجرد رواية من 235 صفحة، صادرة عن دار فيرست بوك المصرية عام 2023، بل كانت شهادة حية على ما يمكن أن يتركه المجتمع في نفوسنا من ندوب، وعلى كيف يمكن للحظات عابرة أن تعيش فينا أكثر من سنوات كاملة. الرواية تُجسّد صراع النفس البشرية مع الندوب التي لا تُشفى، كاشفةً عن عوالم الداخل الهشّة، ومتتبعةً آثار الفقد والخذلان على الروح. وبقدر ما تنهل من المنظور الطبيعي، فإنها تعكس واقعية قاسية تجعل القارئ أمام مرآة مكشوفة للذات والمجتمع، ومع كل ما تحمله من عمق نفسي واجتماعي، لم تخلُ الرواية من الإثارة التي تشدّ القارئ، وتمنح النص طاقة سردية تُبقيه يقظًا حتى الصفحات الأخيرة. خرجت من الرواية وأنا أحملها بداخلي، كأنها لم تُغلق بنهاية الصفحة الأخيرة، بل بدأت من بعدها في طرح أسئلة مؤجلة، ومراجعة مواقف حسبتها طيّ النسيان، وأدركت أن بعض الكتب لا تُقرأ فقط، بل تُعيدك إلى ذاتك.