قراءة أوزبكية في رواية غراميات شارع الأعشى لبدرية البشر..
التناقضات الاجتماعية ومكانة المرأة في المجتمع العربي.

في إطار مشروع مشترك مع مركز البحوث والتواصل المعرفي، تُرجِم إلى اللغة الأوزبكية عدد من الأعمال الأدبية السعودية، ومن بينها رواية الأديبة السعودية بدرية البشر غراميات شارع الأعشى. وقد نُشرت الترجمة أولًا في مجلة جهان أدبياتي (الأدب العالمي) الصادرة عن اتحاد الكتّاب في أوزبكستان بخط الكيريل (الحروف الروسية)، بمعدل ستة آلاف نسخة شهريًا، ثم صدرت لاحقًا عن دار Yangi asr avlodi («جيل القرن الجديد») للنشر بخط اللاتينية في خمسة آلاف نسخة. تحاول هذه الدراسة تحليل الرواية بما تحمله من قضايا مشاركة المرأة السعودية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وما تكشفه من تناقضات اجتماعية في المجتمع العربي. كما تطرح الرواية إشكاليات متصلة بالعلاقات الأبوية والتشدد الديني والتحولات الاجتماعية، إضافة إلى تصويرها روح التكافل في الحيّ المسلم، وحكمة الوالدين في تربية الأبناء، والدعوة إلى البراءة والنزاهة في الحياة. مدخل. عرف القارئ الأوزبكي المملكة العربية السعودية طويلًا على أنها أرض الوحي والمقدسات، وبلاد الصحارى والنفط، والدولة التي تملك فريقًا كرويًا وطنيًا قويًا في آسيا. وحتى نهاية القرن العشرين لم تكن الترجمات الأدبية السعودية متاحة بالأوزبكية. لكن مع مطلع الألفية الجديدة تغيّر الوضع، وبفضل جهود مركز البحوث والتواصل المعرفي بدأت نصوص الأدب السعودي تصل إلى القراء في آسيا بلغات مهمة كالصينية والإندونيسية والأوزبكية. وهكذا تعرّف القارئ الأوزبكي إلى أدباء سعوديين مثل حامد دمنهوري، وإبراهيم الناصر الحميدان، وحمزة بوقري وغيرهم. وفي هذه الحركة الأدبية برزت أسماء نسائية وصلت إلى الساحة العالمية مثل خيرية السقاف، ورجاء عالم، وأميمة الخميس، وبدرية البشر. حياة بدرية البشر وإبداعها. وُلدت بدرية البشر عام 1967م في الرياض. درست علم الاجتماع في جامعة الملك سعود، ثم نالت الدكتوراه من الجامعة الأمريكية في بيروت. وإلى جانب عملها الأكاديمي برزت كصحفية وكاتبة مقالات ثابتة في صحف اليمامة والشرق الأوسط والحياة. كما قدّمت برامج اجتماعية عبر التلفاز منذ عام 2014م. تنوع إنتاجها الأدبي بين القصة القصيرة (مساء الأربعاء) والروايات (هند والعسكر، غراميات شارع الأعشى، زائرات الخميس)، فضلًا عن مقالاتها الصحفية، وكتابة سيناريوهات للمسلسل الكوميدي الشهير طاش ما طاش. ويُعد أشهر أعمالها رواية غراميات شارع الأعشى (2013) التي بلغت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية سنة 2014م، وتُرجمت إلى عدة لغات. مضمون الرواية وأحداثها. تدور أحداث الرواية في أحد أحياء الرياض خلال سبعينيات القرن الماضي، وتحديدًا في شارع الأعشى. كان الناس آنذاك ينامون على أسطح البيوت في غياب المكيفات، ويعيشون مع أفلام الأبيض والأسود. وتسرد الأحداث بلسان البطلة عزيزة التي تحلم بالحب والحرية، لكن عادات وتقاليد المجتمع تكبح آمالها. تصوّر الرواية مصائر نساء متعددات: •عواطف: تستسلم لمطالب المجتمع على حساب حبها. •فلوة: تُجبَر على زواج غير مرغوب فيه فتعيش حياة تعيسة وتنزلق إلى الخيانة. •الجازي: تتزوج عن حب لكنها تعاني من عنف الزوج. •مزنة: تصمد وتتمسك بخيارها حتى تفوز بحبها. أما عزيزة فتعرف تجربة حب مع الطبيب المصري أحمد، لكنها تُصدم حين يرفض خطة الهروب الرومانسي التي استوحتها من السينما، لتكتشف الفارق بين الواقع والفيلم. البنية الفنية والشخصيات. قسّمت الرواية الرجال إلى فئتين: •الأبطال السلبيون: سعد (شاب انزلق إلى التطرف)، ضاري (الأخ غير العادل في نظرته للمرأة)، أبو فلوة (الأب الذي أجبر ابنته على الزواج)، أبو بجاد (رجل الدين المزدوج). •الأبطال الإيجابيون: أبو إبراهيم (الأب الحنون)، متعب (الأخ المتسامح)، الدكتور أحمد (المثقف الواعي). أما النساء فقد تفاوتت مواقفهن بين الخضوع والتمرد؛ فمنهن من انهزمن (عواطف، فلوة، الجازي)، ومنهن من قاومن حتى انتصرن (مزنة). كما برزت شخصيات نسائية قوية مثل وضحى وعطوى وأم جزاع اللواتي واجهن قسوة الحياة بالعمل والكفاح. صورة الحيّ والتكافل الاجتماعي. أبرزت بدرية البشر بصدق روح التعاون داخل الحي المسلم. فعندما ضاقت السبل بوضحى البدوية التي تُعيل أربعة أطفال، لجأت إلى المسجد تطلب العون. فجمع الإمام أهل الحي لمساعدتها. فتبرّع أبو إبراهيم لها ببيت ورثه عن أبيه، وتكفلت نساء الحي بتأثيث المنزل وتزويده بالمؤن. هذه اللوحة الإنسانية تعكس قيمة التكافل التي تُمكّن أسرة من النهوض من جديد ليجد أطفالها فرصة للتعليم. وفي المقابل صوّرت الرواية قسوة الحياة البدوية، إذ أجبرت وضحى على الزواج في صغرها. وكان مشهد ولادتها مؤثرًا وعميق الدلالة. كما أبرزت الرواية قيمة النزاهة والصدق؛حين أعطاها أبو إبراهيم البيت، كانت الأغنام والدجاجات ما تزال ملكًا له. فجاءت وضحى تستأذنه أن تستفيد من البيض وتعتبره دينًا ترده له لاحقًا، غير أن أبا إبراهيم تنازل لها وأصرّ قائلًا إن كل ما في البيت حلال لها. ومن أبرز المشاهد التربوية محاولة مزنة الهروب مع حبيبها رياض، حيث نصحتها وضحى بالحكمة قائلة إن السبيل الصحيح أن يأتي رياض للخطبة الشرعية مع أبيه والشيخ، وبذلك تمّ الزواج وفق الشريعة والسنة. المجتمع والفكر. انتقدت الرواية ثلاث قوى مهيمنة: العادات؛ التطرف الديني؛ النظام الأبوي. وبيّنت الكاتبة كيف أن النساء ابتكرن وسائل بسيطة للتواصل مع من يحببن: لقاءات على السطح، تبادل الأشرطة، أو محادثات هاتفية، ما يرمز إلى أن القيد مهما اشتد لا يمنع الإنسان من السعي وراء حلمه. كما جسدت شخصية سعد انزلاق الشباب إلى التطرف، بينما انتقدت عبر والدة عزيزة النزعة المحافظة المفرطة؛ فالفتاة التي ترفع سماعة الهاتف تُتَّهم بأنها فقدت “بكارة صوتها”، والمرأة التي يرى رجل غريب وجهها تُعتبر “مكشوفة” بلا حياء. الأسلوب الفني. مزجت بدرية البشر بين الحاضر والذاكرة، وأدخلت تحليلات اجتماعية في نسيج الرواية. وقد حمّلت عزيزة دور الراوية، ما جعل السرد في بعض المواضع يتعثّر، لكنه أضفى على العمل عمقًا وتنوعًا. الخاتمة. إن رواية غراميات شارع الأعشى ليست نصًا عن الحب فقط، بل هي عمل يكشف ضرورة مشاركة المرأة في الحياة جنبًا إلى جنب مع الرجل، وينتقد سلطة العادات والتطرف والازدواجية الاجتماعية، ويُبرز في الوقت ذاته فضائل التكافل الأسري، وحكمة التربية، والدعوة إلى النزاهة والطهر. لقد أبدعت بدرية البشر صورًا فنية تعيد التفكير في مكانة المرأة السعودية وحقوقها. وفي ظل رعاية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لجميع فئات المجتمع في إطار رؤية 2030، باتت المرأة السعودية اليوم شريكة كاملة في الحياة العامة، وقد مُنحت حق قيادة السيارة، وأصبحت فاعلة في المجالات السياسية والثقافية. ومن ثم تُعد رواية بدرية البشر نصًا حيًّا وذا راهنية خاصة للقارئ الأوزبكي أيضًا. _________ *رئيس قسم تقنية المعلومات واللغات الأجنبية بجامعة الدبلومات (Diplomat University)، مترجم الرواية إلى اللغة الأوزبكية.