
يضم هذا الكتاب دراسة مفصلة عن الصحافة الصهيونية التي تأسست في مصر ، منذ بداية المشروع الصهيوني في نهايات القرن التاسع عشر وحتى قيام الكيان الصهيوني عام ١٩٤٨، طبعته الأولى عام ١٩٩١ م، وقد جاء في ثلاثة أبواب ، الباب الأول عن اليهود والصحافة في مصر ، تضمن فصولا عن الطائفة الإسرائيلية في مصر ، وعن نشأة الصحافة الصهيونية فرنسية اللغة وتطورها في مصر، وسبب أن معظم الصحف الصهيونية بمصر كانت بالفرنسية أن الفرنسية كانت لغة الطبقة اليهودية الراقية وصاحبة النفوذ آنذاك. الباب الثاني عن الدعاية الصهيونية وسائلها وأساليبها ، أما الباب الثالث فهو عن الإستراتيجية الصهيونية وترجمتها على أرض مصر. يرجع وجود اليهود في مصر إلى ما قبل الميلاد، و لكن أعدادهم قفزت مع مجيئ الحملة الفرنسية ، ثم مع التطور الكبير الذي شهدته مصر في عصر محمد علي وإسماعيل باشا، وبسبب الإضطهاد الذي تعرضوا له في أوروبا، وصل عددهم مع بداية الحرب العالمية الأولى ما يقارب ستين ألفا ربعهم فقط من اليهود المحليين والباقي من المهاجرين ، ورغم إمكانية حصولهم علي الجنسية المصرية إلا أن أغلبهم حافظ على جنسيته نظرا لما كان للجاليات الأجنبية من امتيازات ، ولذا فقد كان تعليمهم و ثقافتهم اجنبية يغلب عليها الثقافة الفرنسية ، وقد أثرى كثير منهم بفضل أعمالهم في البنوك وتملكهم المصانع والإقطاعيات الزراعية ، وإن بقي المحليون منهم أقل حظا وأقرب إلى الفقر. انقسموا إلى طائفتين: القرائيين وهم الذين لا يعترفون بالتلمود ، والربانيين ، وهم الأغلبية ، وكانوا ينتمون إلى اليهود السفارديم الذين يعود أصلهم إلي إسبانيا وحوض البحر المتوسط ، بعد ذلك دخل فيهم اليهود الأشكنازيم ، وهؤلاء من يهود أوروبا. وطبقيا كان هناك طبقة الأثرياء ورجال الأعمال ، وكانوا منفصلين تقريبا عن طبقة الفقراء. ما إن بدأ المشروع الصهيوني حتى أُنشئت منظمات صهيونية وأخذت في التغلغل في المجتمع ، وإعادة هيكلة الجالية اليهودية لتكون داعمة للمشروع الصهيوني ، وشهدت البلاد مجموعة من الصحف الصهيونية ، وكان لبعضها نشاط علي المستوي السياسي المحلي ، و إن لم يكن من انغماسها في الشأن المحلي إلا كسب الأنصار للمشروع . حافظت الصحف اليهودية على صلاتها الحسنة بالقصر ، و كانت مع حزب الوفد حين يكون في الحكم أو حين كانت قياداته تمارس دورها على أرض مصر . انطوت الاستراتيجية الصهيونية على أربعة أبعاد ، سياسي يعمل على كسب تأييد القوى السياسية الدولية للمشروع الصهيوني، والقضاء على المعارضة العربية، و كسب تأييد الحكومات العربية أو تحييدها ، و بعد اقتصادي يضمن توفر المال لقيام المشروع و مؤسساته علي الأرض الفلسطينية، وبعد بشري يتمثل في تهجير اليهود إلى فلسطين وإحلالهم محل سكانها ، وربط من لم يهاجر منهم بالمشروعات الداعمة للكيان ، وفي بعد عسكري يضمن تأسيس جيش يحمي الكيان. ضمن البعد الاقتصادي تم تأسيس فرعين في كل من القاهرة والإسكندرية للصندوق القومي اليهودي ، وهو الصندوق الذي يتولى شراء الأراضي، وقد استطاع جمع تبرعات خلال السنوات الأربعين الأولى من القرن العشرين وصلت إلى حوالي ستة ملايين جنيه استرليني من مصر، تقول المؤلفة إنه في الوقت الذي كانت الأمة المصرية تناضل من أجل حريتها كان الصندوق القومي اليهودي منشغلا بتحصيل التبرعات لتمويل الاستيلاء على الأراضي العربية في فلسطين . وخلال الحرب العالمية الأولى استطاعت المنظمات الصهيونية إرسال المساعدات للصهاينة عن طريق البحر عبر الإسكندرية - سيناء، وذلك بعد توقف وصول المساعدات عن طريق موانئ فلسطين . كما أن الجالية اليهودية في الإسكندرية عملت اكتتابا لدعم إنشاء الجامعة العبرية، يقول الدكتور محمد عبد القادر حاتم رئيس الوزراء المصري السابق إنه لولا وجود جامعة القاهرة لما كانت الجامعة العبرية ، فإن اللجنة التأسيسية للجامعة العبرية قد أُسست في القاهرة ، كان رئيسها سلفادور شيكوريل أحد كبار التجار المصريين، وكان تمويلها في الأصل مصريا، والأهم من ذلك أن مصر قد احتضنت كبار أساتذة هذه الجامعة، أشهرهم إسرائيل ولفنستون الذي تُسمى باسمه مكتبة الجامعة العبرية، وقد نال الدكتوراة من كلية الآداب بجامعة القاهرة علي يد الدكتور طه حسين ، عن موضوع اليهود في جزيرة العرب . أدرك هرتزل منذ بداية مشروعه أن فكرة إقامة دولة صهيونية في فلسطين لا بد أن تحظى بتأييد الدول الكبرى أو بعضها على الأقل، وأدرك كذلك أنه ما من أمة كبرى ستمنح تأيدها لهذه الدولة ما لم تكن لها مصلحة حقيقية في وجود هذا الكيان، ولذا فقد حرص في لقاءاته مع السلاطين والحكام على تقديم الدولة الصهيونية كدولة عميلة للقوى التي تساهم في إنشائها. وقد أبدت الصحف اليهودية الصهيونية في مصر وعيا كبيرا بهذا البعد السياسي في استراتيجية العمل الصهيونية، ولذا فقد ساندت جهود المنظمة الصهيونية لكسب تأييد بريطانيا للمشروع. في اتصالاته مع بريطانيا حرص هرتزل على تقديم أدوار العمالة التى يمكن للدولة الصهيونية تقديمها، والتي يمكن أن يقدمها اليهود في العالم كشعب عميل، وقد ركز على هذه الأدوار: تأمين طريق المواصلات البريطانية للهند عبر قناة السويس من خلال وجود دولة عميلة، وأن هذه الدولة ستكون عماد السيطرة العسكرية على الشرق الأوسط عندما تثور شعوب المنطقة، وأن اليهود في العالم سيقدمون الولاء السياسي والاقتصادي لبريطانيا، بما فيها ترويج منتجات بريطانيا في البلدان التي يقيمون فيها . ولقد فهم الصهاينة أنه إذا أُجبر البريطانيون على الجلاء عن مصر فإنهم سيعجلون بإنشاء الدولة اليهودية لتأمين طرق مواصلاتهم إلى الهند. ولذا فإن تشجيع صحافة اليهود العربية في مصر على المطالبة بالاستقلال من شأنه أن يعجل بتحقيق الهدف الصهيوني ويكسبه ثقة المصريين. ومن هنا كان التأكيد لبريطانيا بأن مماطلتها في قيام المشروع اليهودي سيجعلها تخسر لأن الجاليات اليهودية قادرة على إثارة المتاعب لبريطانيا في مستعمراتها. أما صحافة اليهود الفرنسية فقد كان موقفها مختلفا، إذ كانت لا تكف عن إظهار الولاء والامتنان لوقوف بريطانيا إلى جانبهم، خاصة وأن المندوب السامي البريطاني كان على اطلاع مستمر على الصحافة المصرية وخاصة الصحافة الصهيونية الفرنسية. ولذا فإن اليهود المصريين احتفلوا بدخول القوات البريطانية إلى القدس. واجتهدت الطائفة اليهودية بشكل جماعي في إظهار الدعم لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. واستجابة للنداء الذي وجهه المندوب السامي البريطاني من أجل التطوع في فلسطين للمشاركة في العمل العسكري البريطاني، استجاب عشرة آلاف متطوع يهودي. عند صدور وعد بلفور تخوفت بعض الدوائر اليهودية من أن يسبب ذلك مشكلات لليهود في الأماكن التى يعيشون فيها، كما تخوفت دوائر بريطانية من قلاقل يثيرها المسلمون في المستعمرات البريطانية، ولذا فقد توجهت الدعاية الصهيونية إلى تهدئة المخاوف العربية بأن المشروع سيكون مفيدا لكافة الأطراف العرب واليهود على السواء، وأنه لن يكون إحلاليا في تعامله مع العرب في فلسطين، ولكنه مع الوقت تطور باتجاه الحديث عن إلغاء الوجود العربي وتأكيد الوجود اليهودي في فلسطين، وكذلك تشويه صورة العرب. ولهذا أخذت الصحف الصهيونية تعتم على الوجود الفلسطيني، والحديث عن المهاجرين اليهود على أنهم الفلسطينيون وعلى الفلسطينيين بأنهم العرب، وعندما تتحدث عن نشاط الصندوق القومي اليهودي تقول إنه يعيد شراء الأرض اليهودية. وعندما تقع اضطرابات في فلسطين فإن الخطاب الصهيوني لا يشير إلى صراع بين الفلسطينيين واليهود وإنما يتحدث عن دسائس المحرضين ومؤامراتهم. أما أعضاء اللجنة العربية العليا فهم يسعون إلى وضع الفلاح والعامل تحت سيطرة الإقطاعيين العرب والمسيحيين والمسلمين. دعم التجمع الصهيوني في مصر هجرة السفارديم من يهود اليمن والمغرب، وكذلك هاجر بعض اليهود المصريون، ولكن حتى عام ١٩٤٨ لم يصل عدد المهاجرين من اليهود المصريين إلى ألفين، وذلك بسبب استقرارهم في مصر وخشية من الرأسمالية اليهودية المصرية على مصالحها الكبيرة في مصر. الأمر المثير للدهشة حقا - كما تقول المؤلفة - هو أنه جرى استخدام مصر في بناء أول تشكيل عسكري صهيوني. جاء لاجئون يهود من فلسطين بسبب الضغوط التركية عندما دخلت الحرب العالمية الأولى، وفي معسكراتهم بدأ تجميع الشباب اليهودي في منظمة عسكرية ستتولى حماية الكيان الصهيوني عند عودتهم إلى فلسطين. وهكذا نشأت أول فرقة عسكرية يهودية أسميت “ كتائب أبناء صهيون “، أو “ فرقة راكبي البغال الفلسطينية”، تلقى أفرادها التدريب العسكري في معسكرات برج العرب بجوار الإسكندرية، وقد غادرت الفرقة مصر للعمل في صفوف القوات البريطانية في شبه جزيرة غاليبولي التركية. فشلت حملة غاليبولي وتم تسريح الكتيبة في مايو ١٩١٦، مع استبقاء ١٢٠ فردا تم إرسالهم إلى لندن ليصبحوا نواة لكتيبة يهودية يجري إنشاؤها هناك. بذل القائد الصهيوني جابوتنسكي ضغوطا كبيرة حتى صدرت الأوامر إلى قائد القوات البريطانية في مصر بتكوين الفيلق اليهودي، ورعت هذا الفيلق المنظمة الصهيونية في مصر التي جيشت الطائفة اليهودية في مصر لرعاية هذا المشروع . كما طالب جابوتنسكي السلطات البريطانية بالتخلي عن اقتراح هربرت صموئيل بتجنيد قوة دفاع فلسطينية تشمل عدداً من الوحدات العربية واليهودية. وكانت الحجة التي ساقها أن من بين فقراء فلسطين عدد كبير لم يصل درجة النضج التي تؤهله لتحمل المسئوليات المدنية. وبمجرد بدء الحرب العالمية الثانية قال بن جوريون أن الصهيونية قد دخلت مرحلة التحول إلى العسكرة، وأنه إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت إلى وعد بلفور فإن الحرب العالمية الثانية لا بد أن تؤدي إلى الدولة اليهودية. وهكذا قامت المنظمة الصهيونية بحملات دعائية لحث الشبان اليهود على التطوع في جيوش الحلفاء حتى يمكن الاستفادة منهم بعد الحرب في تكوين الجيش اليهودي. وقامت حركة دعائية واسعة النطاق بين الشبان اليهود في مصر، وفي إطار العمل السري قام فرع مخابرات عصابة شتيرن بتدريب شبان يهود عسكريا في مصر، ثم تهريبهم إلى فلسطين . وبهذا يتضح أن الطائفة اليهودية قامت بدورها كاملا خلال الحربين في حشد الجنود اليهود وتأهيلهم وحفزهم على الاستمرار في سلك الجندية حتى يصبح لدى الكيان جيش جاهز بمجرد إعلان قيام الدولة.