الكتابة حين لا يقرأ أحد.

يتسلّل إليك الإحباط أحيانًا، ويعود السؤال: أحقًا لا أحد يهتم؟ لا أحد يقرأ؟ لا أحد يعلّق؟ وفي الضفّة المقابلة تتزاحم عشرات التعليقات على مقطع عابر في “تيك توك”! يتراءى إلى ذهنك مشهد تكدّس الكتب في المعارض، وفي مكتبات الجامعات والمؤسسات الثقافية ومكتبات المنازل. مشهد يبهج عشّاق الكتب، لكنه يثير سؤالًا آخر: أين الناس؟ الكل منشغل بهاتفه! ينقدح هذا السؤال في ذهنك وأنت تكتب، أو تبحث عن فكرة للكتابة. ومع ذلك، نحن نكتب، كما يفعل عشرات غيرنا كل يوم. ومع ظهور “شات جي بي تي” ازدادت الكتابة، بتفاوت أساليبها واختلاف أثرها، لكن المهم أنّ أحدًا لا يريد أن يتوقف! قبل أيام وصلني مقطع فيديو لصديق يقرأ فيه أحد أبنائه – حفظه الله – قصيدة من ديواني شغايا. كانت سعادتي غامرة أن أسمع بعض ما كتبت بصوت شاب وجد ما يدفعه لتلك القراءة، حتى وإن كان بدافع تشجيع أبيه! مثل ذلك يحدث حين تجد ما تنشره يتداول على استحياء بين فترة وأخرى في وسائل التواصل، أو حين تسمع في الحارة من يردّد بيتًا شعريًا لك، أو يقابلك شخص ليقول: “قرأت لك المقال الفلاني”، أو: “أعجبتني حالتك في الواتساب”. فهل تبدّد تلك التفاعلات الصغيرة مشاعر الإحباط الناتجة عن غياب الاهتمام؟ وهل يوجب ذلك أن نتوقف عن الكتابة؟ أو أن تتحول الكتابة إلى “موضة” تبحث عما يناسب الناس فقط؟ لقد صار للكتابة، شأنها شأن أي مجال، اقتصادٌ له جمهوره ومؤشراته وموضوعاته الرائجة. هذه الهواجس لا تنفي قناعتي: الكتابة مهمّة، لأن القراءة مهمّة أيضًا. يقول طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر (1938): “الكتاب يُقرأ ليُفهم، ويُفهم ليُعمل به.” وهي عبارة تكشف أن العلاقة بين الكاتب والقارئ ليست سطحية، بل امتدادٌ طبيعي للمعرفة والعمل معًا. حتى مع هيمنة التكنولوجيا، بقي للحرف سحره وسطوته التي لا تُقاوَم. والكتابة لا تعطي أثرها مباشرة، ولا تمنح الكاتب دائمًا شعور الاهتمام. لكنها، حتمًا، ستجد من يُصغي إليها ويتأملها، وربما من ينتظرها على أحرّ من الجمر، حتى وإن لم يصل إليك هذا الشعور.ِ لا تتوقع من الكتابة أن يكون أثرها صاخبًا كهدفٍ يحسم مباراة مهمّة، لكنها هي من تروي قصة ذلك الهدف وتمنحه البقاء في الذاكرة.