في فيلم « حوريات الموت في إنيشرين».

علاقات الأصدقاء في ظل الحرب.

الإنسان كائن متناقض ويحكمه الخوف، يحب الحياة ويحلم بالخلود، يطمئن لفكرة وجود الجنة لكنه يخشى الموت. ومع أنه يعرف يقيناً أنه سيموت لكنه مهووس طوال الوقت بترك شيء حي منه، لا تطاله يد الموت، كالموسيقى والفنون أو المعمار ، لكن الحقيقة أن الإنسان حين أتى بالموسيقى كان يريد أن يمنح الحياة غنى وعمق أكثر، بل أراد أن يعيشها بكل حواسه. ولأن الدماغ يحتاج دائماً إلى إيمان ليطمئن ويستقر، فقد ابتكرت أدمغة البشر مئات الطرق لتبقى محاطة بالأمان وتشعر أن الموت لن يأتِ على الإنسان كلياً، لكن الشيء الحقيقي فعلياً في آخر المطاف أن كل شيء إلى زوال مهما طال الزمن، ولن تعيد آثار الإنسان الحية بقيته الميتة. وسأعرض اليوم قراءة لفيلم»» The Banshees of Inisherin والذي يطرح هذا الصراع الأزلي بين الإنسان ونفسه حول الوحدة والفراغ والحياة والموت، حول المعنى والجدوى، الحب والكراهية والخلود، حول المشاعر المخيفة التي قد تتحول فجأة من الحب إلى الملل، فقد يصحو المرء فجأة ليجد نفسه يفكر بطريقة جديدة ويحب أشياء جديدة، ويكره كل ما كان عليه من قبل حتى أقرب الناس إليه ! تدور الأحداث في عشرينيات القرن العشرين على جزيرة خيالية صغيرة قبالة سواحل أيرلندا، في فترة الحرب الأهلية الأيرلندية، و القصة بسيطة ظاهريًا فبادريك (كولين فاريل) رجل طيب و بسيط روتيني و يحب قضاء وقته مع صديقه المقرب كولم (بريندان غليسون) ثم فجأة يقرر كولم إنهاء صداقتهما دون سبب واضح، مكتفيًا بالقول إنه لم يعد يريد إضاعة وقته في أحاديث فارغة، يحاول «بادريك» فهم السبب واستعادة الصداقة، لكن محاولاته تدفع كولم إلى تهديد صادم وغريب بأن يقوم بقطع أصابعه في كل مرة سيزعجه فيها «بادريك» ويرميها إليه! لتكون ردة فعل «بادريك» كذلك أكثر تطرفاً، فهو يصر على اقتحام حياة «كولم» رغماً عنه، ليقوم بتنفيذ تهديداته، ويستمر في قطع أصابع يده اليسرى كاملة، حتى يصبح عاجزاً تماماً عن الإمساك بالكمان وعزف الموسيقى التي يحب. «كولم «يعيش أزمة منتصف العمر و يشعر أن حياته لم تعد تملك أثرًا أو معنى، و لديه وعي حاد بفناء العمر، فيحاول تعويض ذلك بخلق إرث فني من خلال الموسيقى، لكنه يميل إلى الانسحاب بدل المواجهة، وعندما يقرر موقفًا فهو يتشبث به بشكل متطرف، حتى لو أضر بنفسه، الدافع الخفي لديه هو الخوف من الموت دون ترك أثر، و الإحباط من محيطه المحدود في الجزيرة المعزولة، والشعور بأن العلاقات اليومية العادية مضيعة للوقت، فيتبنى سلوكًا عدميًا بقطع الأصابع كنوع من السيطرة على مصيره وكأنه يقول: إن لم أستطع التحكم في الحياة على الأقل أتحكم في نهايتي، أما «بادريك» فسماته النفسية تميل إلى السذاجة و الطيبة، بسيط و مباشر يرى الحياة من خلال عدسة الروتين والعشرة الطيبة، لديه وعي محدود بالموت والمعنى، لكنه شديد الحساسية تجاه الرفض فهو يربط هويته وصورته الذاتية بعلاقته بالآخرين، خصوصًا كولم، ودافعه الخفي هو الخوف من الوحدة و القلق من أنه ليس كافيًا أو ليس مثيرًا للاهتمام إذا فقد علاقاته القريبة فسيتحول من شخص ودي إلى شخص غاضب وناقم وكأن الرفض الصريح أيقظ داخله جانبًا مظلمًا لم يكن يعرفه من قبل . من منظور «فرويد» الصداقة ليست مجرد علاقة اجتماعية بل هي امتداد للرغبة في التعلق بالآخر و شخصية «بادريك» تجسد الأنا الطفولية، التي تبحث عن الحب غير المشروط، حيث يتعامل مع صديقه كما يتعامل الطفل مع الأم و يحتاج إليه كمرآة لوجوده، لذلك حين قطع كولم الصداقة شعر بادريك بالهجران وهو ما أثار القلق الوجودي عنده. أما «كولم» فلا يريد الاستمرار في علاقة مكرورة بلا معنى، بل يسعى إلى إبقاء اسمه في التاريخ، وهنا يظهر التناقض بين فكرة العيش في صداقة بسيطة تمنح الدفء،أو السعي إلى الخلود عبر الفن. قرار كولم بقطع أصابعه إذا استمر بادريك في محادثته يمكن قراءته فرويدياً كفعل سادي مازوشي فهو يجرح نفسه ليعاقب الآخر، فالأصابع هي أداة الرغبة لأنها تمكّنه من العزف وإنتاج المعنى، و حين يقطعها فإنه يقطع الرغبة نفسها و بمعنى آخر إذا لم تُحترم رغبتي في العزلة، فسأدمّر أداة رغبتي! هذه آلية رفض الآخر عبر تدمير الذات، والتي تمثل قمة التناقض النفسي. و الفيلم يرصد التحولات المتطرفة للأصدقاء فبادريك يبدأ كرمز للطيبة و السذاجة، لكنه يتحول تدريجياً إلى الغضب والظلام والتخريب حين يدمر بيت كولم ويحاول حرقه حياً، وهذا يعكس كيف يمكن للهجران أن يحرّك الظل الكامن في النفس فيخرج الشر من الطيب، أما كولم والذي يبدأ كمثقف موسيقي، لكنه يتحول إلى مازوشي يدمّر نفسه، لتتحول رغبته في الخلود به إلى البتر والتدمير وكلاهما يسقط في هاوية العنف المتبادل، وكأن الصداقة لا يمكن أن تموت بهدوء بل بدمار، وكأنها لحظة يفقد فيها كلا الصديقين بوصلته، ويجهل دوافعه تماماً، بل ويفقد التحكم والسيطرة على سلوكياته! خلفية الحرب الأهلية الأيرلندية انعكاس للانقسام الداخلي في النفس البشرية، فكما يقتتل الإخوة في الوطن بلا مبرر واضح، ينهار الرابط بين بادريك وكولم بلا سبب عقلاني، العنف الخارجي يوازي العنف الداخلي وهنا يمكن أن نقرأ الحرب كـ إسقاط جماعي فالمجتمع يعكس على أرض الواقع ما يعيشه الفرد داخلياً من صراع. الجزيرة هنا تمثل العالم المغلق حيث تصبح العلاقات الإنسانية هي كل شيء، فالجزيرة الخيالية محاطة بالبحر، وكأنها عقل مغلق على نفسه والعزلة الجغرافية ترمز للعزلة العاطفية للشخصيات، و الطبيعة هناك جميلة لكنها قاسية وهذا يعكس جمال الحياة الظاهري مقابل قسوتها الداخلية. الفيلم يعرض نوع من الكوميديا السوداء ف»مارتن ماكدونا» يستخدم المواقف العبثية كقطع الأصابع، و محادثات الحانة الغريبة ليجعلنا نضحك على ما هو مأساوي في الأصل ، هذا الأسلوب يخلق تنافرًا عاطفيًا يجعل الرسالة أعمق، أما الألوان غالباً باهتة تميل للبني والرمادي، في رمزية لضبابية الوضع، كما أن حمار «بادريك» الصغير يمثل البراءة والبساطة كصاحبة وبموته ينكسر شيء داخلي في شخصيته ويميل نحو العنف. الفيلم يحاكي الخوف من الوحدة و الموت بموازاة الحرب الأهلية الأيرلندية، والتي تدور في عام 1923، بين طرفين كانوا أصدقاء كذلك في السابق ، الجيش الجمهوري الأيرلندي المنقسم بعد معاهدة السلام مع بريطانيا، كولم وبادريك كانا صديقين مقربين لكن خلافهما يتحول فجأة إلى قطيعة تتصاعد بلا منطق واضح، تمامًا كما حدث بين أطراف الحرب. و قطع الأصابع يمثل الضرر الذاتي الذي يلحقه طرفا النزاع ببعضهما، حيث الخسارة لا تصيب العدو فقط بل تصيب الجميع. فيلم (حوريات الموت في إنيشرين) هو فيلم أيرلندي بريطاني صدر عام 2022، من إخراج وكتابة «مارتن ماكدونا»، ويجمع مجددًا الثنائي «كولين فاريل» و»بريندان غليسون «بعد فيلمهما الشهير In Bruges ، فاز الفيلم بجائزة أفضل ممثل (كولين فاريل) في مهرجان البندقية، كما ترشح لـ 9 جوائز أوسكار، منها أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل ممثل لكل من «فاريل وغليسون» حظي بإشادة واسعة على مستويَي الحوار والتمثيل خاصة الأداء الصامت والمعبر «لغليسون»، وأداء» فاريل» الذي أظهر براءة وحزنًا في آن واحد.