عبدالرحمن الدرعان يكتب سيرته الأولى لـ «شرفات»:

من رائحة الطفولة في «سكاكا» إلى الاختباء عن العالم.

يمثل عبدالرحمن الدرعان واحدًا من الأسماء البارزة في المشهد الثقافي السعودي، مبدعًا استثنائيًا جمع بين الإبداع الأدبي والعمل الثقافي والتربوي. عُرِف الدرعان بوصفه علامة مضيئة حملت على عاتقها همّ السرد القصصي، فكتب بلغة أدبية صافية وعذبة تمزج بين شاعرية الجملة وعمق الفكرة، تاركًا أثرًا لا يُنسى في وجدان القارئ. ورغم ندرة إنتاجه، إلا أنّ ما قدمه في «نصوص الطين» و»رائحة الطفولة» منح السرد السعودي قصصًا حديثة ومدهشة رسخت مكانته ضمن أبرز رواد هذا الفن. ومَن يعرف الدرعان يدرك أن كتابته أشبه بحالة حب لا تُنسى حضور الدرعان في المشهد المحلي لم يقتصر على نصوصه الإبداعية فحسب، بل امتد إلى الصحافة والأندية الأدبية ومؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، حيث قدّم تجربة ثرية بين التعليم ورئاسة نادي الجوف الأدبي وإدارة الثقافة والمكتبات بالمؤسسة. صانعا مسيرة تستحق أن تُوثَّق وتُحتفى بها، يقف وراءها رجل عاشق للغة، مخلص لجوهر الإبداع، وصوت لا يتكرر في الأدب السعودي، لم يُجامل يومًا على حساب مبادئه. في هذا الملف الخاص من «شرفات»، يأخذنا عبدالرحمن الدرعان في رحلة شخصية إلى أعماق طفولته وبداياته، عبر سرد يحمل بين طياته الحزن والحنين، الفقد والكتابة، من سكاكا الجوف إلى لحظات الانسحاب والاختباء عن العالم المألوف. ويتضمن الملف الذي اعده الزميل محمد صالح الهلال حوارات ومقالات وشهادات وقراءات تتناول شخصية الدرعان وأدبه وقيمته في الأدب السعودي الحديث. الولادة في سكاكا الجوف ..كنت الابن البكر وكان اسمي قد ولد قبل ولادتي لكن الأمور جرت بطريقة مغايرة ووجدتني قد ولدت - بسبب حلم منامي - باسم لم يكن لي. ربما كان هذا هو الشرخ الأول الذي لم أشعر به إلا فيما بعد، كما لو أن طفلا يولد بعاهة في قدميه مثلا لكنه لن يشعر به إلا عندما يكون في حاجة للمشي. لا أعرف إن كانت تتغير أقدارنا مع تغير الأسماء، ما شعرت به على الدوام هو أن كافكا كان يعنيني شخصيا عندما قال: (ما أردته لنفسي ليس الذي حدث لي بالفعل، ولكني غيرتُ خططي ألف مرة لأفرح، وألف مرة لأتحمل، وألف مرة لأعيش). يمكنني الاعتراف بلا مبالغة بالقياس إلى أقراني بأنني قد عشت السنوات الأولى ما قبل العاشرة سعيدا لأكثر من سبب أولها أنه ليس للسعادة وجود لغوي في قاموسي، والسبب الآخر أن الطفل يحيا بلا زمن والسعداء كما يقال لا يحتاجون إلى زمن. الطفل كائن سعيد لأنه لا يعرف. وهنا أتذكر جملة طالما توقفت عندما في رواية فيزياء الحزن: (لا يعلم الله الطفل اللغة فورا فهو آنذاك يعرف سر الجنة لكنه لا يملك اللغة لكي يصفها وعندما يمنحه الله اللغة يكون قد نسي السر). وإذا كان لي أن أتم الجملة لقلت إن الأطفال يظلون سعداء ما داموا يحاولون تذكر السر فإذا ما كفوا عن محاولاتهم فهم لن يعودوا أطفالا ولن يعودوا سعداء. .. في العاشرة حدث أن الشرخ الآخر: انفصال الوالدين وبداية اليتم من الأم في الوقت الذي كنت في أمس الحاجة لها، ففي تلك المرحلة كنت قد تعلمت لغتها وتعلقت بها كما لو أن حبلا سريا آخر يوثقني بها، لم تكن أمي بل الملاك الذي خبأ لي الجنة في كل مكان تلاعبني وتغني لي وهي منحنية في شمس الشتاء على مكينة الخياطة وهي تعد الطعام وتحتال علي بلعبة ذكية لتطعمني لأكبر، أو حين كانت تقص علي قصصها الأثيرة. ولما كبرت قليلا فقدت بغيابها عالما آخر فقدت السماء التي تظللني وثكلت الدفء والحماية والأمان، كنت أسمع أترابي ينادون أمهاتهم وهم يلوذون بأحضانهن بينما كنت محروما من هذه الكلمة (أمي) هذا ما جعل لساني معطوبا كان شعوري آنذاك أنه يجب أن أبتر لساني ولأنني لم أكن أمتلك قدة على المغامرة بما يكفي فقد آثرت الصمت وربما كانت في داخلي تلك الرغبة القديمة أن أقايض الكلام بسر الجنة ولكن بعد فوات الأوان. .. كنت أحدق في السماء وأنا أرى المكان يخلو من وجه أمي لأرسم صورتها من غيمة عابرة تتشكل لكن الغيمة سرعان ما تتلاشى. .. كان يخيل لي أن ثمة كلمة سحرية غير خاضعة لنواميس الزمان والمكان لم يتسن لأحد أن عثر عليها تمتلك طاقة جبارة تجلب الغائبين، أو تمكنني على الأقل من التحدث معهم وجها لوجه (كما يحدث الآن في وسائل التواصل الاجتماعي)، ولكن فشلي في العثور عليها أدى إلى العثور على بديل: الكتابة، أن تحز شرايين الكلمات حتى تستخرج ما بداخلها، وأن تكتشف المعادل اللغوي الذي يواكب ما في وجدانك. وشرعت شيئا فشيئا بالانسحاب نحو نفسي كما يفعل الحلزون والتحديق في ذاتي والاختباء عن العالم المألوف. هكذا كانت البداية وكل ما تلاها هو بداية أخرى. ولكن - الكلمات التي تأتي عادة بعد لكن هي الأهم كما يقال - هل يمكن أن ينسحب المرء في هذا العصر السائل، حيث تحققت نبوءة الشاعر السوريالي بريتون في قصيدته (بيت الزجاج)؟. فإذا كان الجندي في أعقاب الحرب العالمية الثانية - حسب كونديرا -يستطيع أن يتخلص من بدلته العسكرية ويتخطى الحدود ويندس في حشود الناس فإن ذلك لم يكن ممكنا البتة، إنسان اليوم أصغر من حبة قمح في راحة اليد. أنا أراوح بين اسمين اسم تسميت به وآخر قدر له أن يموت في اللحظات الأخيرة ولهذا فإنني أشعر بأن اسما ثالثا لا أحد ولا حتى أنا يعرفه، وإذا أكتب فإنما أحاول العثور عليه وعدم العثور عليه بالشغف نفسه. كما إنني أراوح بين الاستجابة لصوتين يتساويان في الشدة صوت كصوتك ياصديقي ويدعوني للكتابة: اكتب! وصوت يصيح بي: اقرأ! ربما كنت بندول ساعة لا تعمل بانتظام.