ديوان همس على جناح رحلة للشاعر سيف المرواني ..

نداءاتٌ لفاتحة السّفر والبدائلُ المتخيلة.

قد يجيءُ البوحُ على شكلِ همسٍ لطيفٍ، فتتشكلُ لديك قصة كاملة تغويك بسردها أو الترنم بها، ولكن ماذا لو كان هذا الهمس معلقًا بجناح رحلة، ألا يكون مدهشًا؟ بل ان أكثر من ذلك حين يأتي بقلم شاعر على لسان امرأة تطلقُ نداءاتها، ومن ثمَّ تنتظر لقاء. ديوان «همس على جناح رحلة» للشاعر سيف المرواني (عازف شجن) الصادر عن دار النابغة، هو بمثابة قصائد مشغولة بإبرة وخيط، لذا جاءت مترفة بالمشاعر الزاخرة، فياضة دون توقف، تنبئُ عن ذات الشاعر العاشقة، الذي استطاع بجدارة أن يتقمّص قلبَ امرأةٍ ولهانة، وروح متوثبة للقاء من تحب، معبرًا عما يختلجُ في داخلها من مشاعر تطفح بالحياة. الغالب على قصائد الديوان أنثى تدعو الشاعر ليأتيها ويلتقيان، قد لا تكون من وجهة نظره امرأة بحدِّ ذاتها، ربما تكون مدينة تزرعُ نبضه بآفاق السرور، وتشكلُ قناديل الانتشاء في مداه، فكم من شاعر افتتن بمدينة وتغزل بها، وشكلها امرأته الأثيرة. وقد استطاع الشاعر المرواني أن يُجري كلمات الدّعوة/ النداء على لسانها سواء كانت امرأة أو مدينة أو.……إلى آخره، وقد تبدو القضية بسيطة كالماء، زاهية كصدر سماء، لكنَّ ثمّة قدرة في ذلك لا يصلها إلاَّ من يمتلك تخييلًا كبيرًا، ومما يساعد على ذلك قصيدة النثر التي يكتبها، فهي حمّالة التجاوز السائد، واللغة الفياضة والصور المحلقة، ناهيك عن استفادتها من الفنون الأخرى كالدراما والحوار والتشكيل والسرد، وهذا ما يؤهلها لتكون مؤثرة وفاعلة. تبدو نداءات المرأة في القصائد جلية، وصوتها الملوّن بإغواءٍ واشتهاء واضح لأن يجيء: « تعالَ أيّها المحلقُ دائمًا. لنسافر إلى واحات الفرح. ونشعل امتدادات التعب». بينما يستقبلُ هو النداء، ويمضي من رحلة إلى أخرى، لينفلت من القيود والحصار الذي يحبسُ صوته: « دعني أيها الصديق.. في سفري الصامت.. تشعلُ امتداداتي العتمة.. ويئنُّ القلب من حصار الموانئ.». لذا فالشاعر هنا يكتبُ بحرقةِ العاشق النائي، الذي تكويه العاطفة المشبوبة، فيلتحف عباءة السفر، ويخوض حيث مراميه، فيخلع الوحدة عنه والتي تشكل قيداً في المعصم، ويطلقه فراشة في المحطات ليعيد وردات العشق التي رحلت بعيدًا وأراد تجديد أزمنتها، فيتغير كلُّ شيء في قلبه، وتعشوشب خطواته: « حيث ينتشي الإحساس.. وتغرّدُ بلابل الدهشة.. ويكسو الاخضرار كلَّ مدى.» وأضحى هنا كالمؤرخ المعتد بأرشفة الوقت، يذكر تاريخ كلِّ رحلة ووجهة السفر ومحطة الوصول، والحقيقة أن هذا السفر ما ان ينتهي من القاهرة ليصبَّ فيها، وما جدّة فهي له فاتحة للسفر. وتكر سبّحة الرحلات وتبين الجهات ويبقى الشاعر متأرجحا بين رحلة وأخرى، وبين قصيدة تولد وأخرى تتهيأ للتشكل والهمس، والواقع أنه ليس بهمسٍ عاديٍّ، وإنما هو ترجمان القلب المتيم، النابض بدفء الوقت المرجوِّ، والمشع في مسام جناح، وهذا الهمس الذي يجيزه الشاعر لم يكن لامرأة، أو مدينة عابرة، بل لفريدة أمسكت بتلابيب عاشق، وفرضت عليه مجيئاً بعد رواحه، وامتلكت رحابه: « ومن هي تلك التي تشعلُ في رحابك مزيداً من التوهج والإشراق؟» لهذا ظلَّ يركبُ الرّيحَ وييمّم القلب صوبها، حتى صارت السماء ذاكرة تؤرشف ما يحدث في الذهاب والإياب، فيذكرني هذا التأريخ في نهاية كلِّ قصيدة ببيت للشاعر حسام الخطيب حين قال: « وكانت له ذكريات هناك مجنّحة، حلوة، ممتعه.» وما هذا الممتع سوى تفلّت من قيودٍ مملةٍ وصقيعٍ لا يثمرُ بدفء، وعتمة تدفعُ إلى السبات، لهذا كان السفر والانطلاق لإيجاد بدائل كالأنس الوضوء والبهجة: « وأنك قلب كبير منحني الحبَّ.. وأنك دفءٌ يزيلُ كلَّ صقيع.. وأنك النهار في يومي» القصائد في «همس على جناح رحلة» صاحبة موضوع ذاتي، مألوف ومكرور؛ إنه الحب، والخطاب الشعري فيها يتراوحُ بين المتكلم على لسان امرأة وبين الشاعر الذي جاءت قصيدة أو اثنتان معبّرتان عما في داخله، وفي كلا الحالتين فإنَّ القصائد تعكسُ في بُنيتها خصوبة خيال الشاعر وقدرته على التعبير، وسبره أغوار امرأة عاشقة. إنه عالم الشاعر الذي يتنابعُ بالموحيات مما جعله يصوغه بطريقة جذابة، وصور جميلة، ملونة، وهذا ما جعل القصيدة تتشكلُ بلغةٍ شعريةٍ تمتاز برمزيتها وواقعيتها. كيف ذلك؟ إنها اللغة التي استخدمها الشاعر والتي تحملُ واقعية الكلمة بصورة شعرية رهيفة تشبه جناح فراشة، والتي وظفت توظيفاً جميلاً لتخدم الفكرة المطروحة وهذا ما جعلها تترف بجمالياتها وتسعى لأن تؤرث تأثيراً في القارئ. * كاتبة سورية