النخاسة.. في عصر الذكاء الاصطناعي.

رغم التقدم الحضاري الهائل، والتضخم القانوني الكبير في إصدار العهود والمواثيق الدولية، التي أمست في كثير من الأحيان تشريعات كرنفالية، فإنها لا تزال تسري في شرايين القرن الحادي والعشرين جريمة عابرة للحدود، خفيّة كالسراب، دامية كالسياط، عنوانها “الاتجار بالبشر”. إنها تجارة الأرواح المنهوبة، حيث يُخْتَزَل الإنسانُ إلى سلعة، ويُقايض كرامته بثمن بخس. لا تزال هذه الجريمة تُمارَس بطرق تتماهى مع العبودية المعهودة في القرون الماضية، لكنها تتوارى في العصر الحديث تحت عباءة العولمة، وتتسلل عبر خوارزميات الرقمنة، وتعيش في دهاليز اللجوء وعذابات المجاعات والفقر. ويُقدَّر حاليًا عدد الضحايا حول العالم، وفقًا لـ “منظمة العمل الدولية” بما يتجاوز (25) مليون إنسان، كما يصل عدد ضحايا الاستغلال الجنسي القسري وحده إلى نحو (4.8) مليون ضحية. لم يكن نهب الأرواح وليد اليوم، بل هو حقبة مظلمة من التاريخ الإنساني. ففي الفترة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، جرى نقل ما يقرب من (12.5) مليون أفريقي قسرًا إلى الأمريكيتين، فيما سُمِّيَ آنذاك بتجارة الرقيق عبر الأطلسي. تُوفي قرابة (2) مليون منهم في الطريق نتيجة للقهر والتعذيب والمرض. ورُميت أجسادهم الطاهرة في بحر الظلمات لتكون لقمةً سائغةً للقروش والحيتان المفترسة. كانت تلك التجارة تحركها القوى الاستعمارية الأوروبية، التي سَخَّرَت الإنسان الأسود كآلة في مزارع السكر والقطن والتبغ، ضمن نموذج مبكر من الرأسمالية المتوحشة. هذا الإرث الثقيل لا يزال يُلقي بظلاله الكئيب حتى يومنا هذا على سياسات التمييز والاستغلال والفقر في مناطق واسعة من العالم. ووفقًا لتقارير حديثة صدرت من “الاتحاد الأوروبي” فإن استغلال اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين بلغ ذروته إثر الحروب التي اشتعلت في سوريا واليمن وأوكرانيا، وأفريقيا، وآسيا، حيث وَجَدَ العديدُ من الفارين أنفسهم في قبضة شبكات تهريب البشر. وفي بعض الأحيان، تم استدراج الأطفال للعمل في ورش غير قانونية، أو إجبارهم على التسول المُنَظَّم، أو حتى الاتجار الجنسي. يُكرِّم الإسلامُ الإنسانَ تكريمًا مطلقًا حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم “ولقد كرمنا بني آدم” الآية70 – سورة الإسراء. كما يُحَرِّم الإسلام بيع الإنسان أو استعباده، فعن النبي محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأجل التسليم،” قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”. كما نهى النبي” عن استغلال الفقراء وحَذَّرَ من التضييق على الضعفاء. إن المبادئ الإسلامية تُشكِّل رافعةً أخلاقية وقانونية في مكافحة الاتجار بالبشر، وتُحتِّم على الدول والمجتمعات حماية الكرامة الإنسانية وقمع الظلم. يُعرِّف “بروتوكول الأمم المتحدة لمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص” هذه الجريمة بأنها “استدراج أشخاص، أو نقلهم، أو استقبالهم، أو إيواؤهم، باستخدام التهديد، أو القوة، أو الإكراه، أو الخداع، أو إساءة استغلال السلطة، أو انتهاز حالة الضعف” بهدف الاستغلال. ويشمل ذلك: العمل القسري، والاستغلال الجنسي، وتجارة الأعضاء، وتجنيد الأطفال، وكافة أشكال العبودية الحديثة. ويتغلغل هذا النوع من الجرائم داخل المجتمعات في صورة استغلال للفقراء والمهمشين، الذين يجدون أنفسهم مضطرين للقبول بشروط مذلّة ومهينة في أسواق العمل، أو يُخدَعون بوعود كاذبة للهجرة أو العمل، لينتهي بهم الأمر في مزارع معزولة، أو مصانع مغلقة، أو منازل مسيّجة. أدركت “المملكة العربية السعودية” خطورة هذه الجريمة مبكرًا، فأصدرت “نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص” بموجب المرسوم الملكي رقم (م/40) وتاريخ 21/7/1430هـ. وعَرَّف النظامُ الاتجارَ بأنه “استخدام شخص، أو إلحاقه، أو نقله أو إيواؤه بغرض إساءة الاستغلال” ويعاقب كل من ارتكب إحدى جرائم الاتجار بالأشخاص بالسجن مدة قد تصل إلى (10) سنوات، وبغرامة مالية قد تبلغ مليون (1) ريال. كما أنشأت الحكومة “هيئة حقوق الإنسان” التي أطلقت برامج توعوية، ومؤتمرات وورش عمل في الجامعات والمجتمع المدني. كما شاركت “المملكة” بفعالية في المنتديات الدولية، ووقعت على “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة” و”بروتوكول الاتجار بالأشخاص”. أعلنت “الجمعية العامة للأمم المتحدة “ يوم 30 يوليو من كل عام يومًا عالميًا لمكافحة الاتجار بالأشخاص. وهذا اليوم ليس مناسبة سنوية للاحتفال فحسب، بل هو نداءٌ موجه إلى الضمير الإنساني بأن ينتصر للأرواح المنهوبة، التي تصرخ قهرًا، وتنزف كرامةً، ويُعِيد الاعتبارَ لمن سُلبت منهم الحياة مرتين: مرة حين اختُطفوا، ومرة حين أُهدرت كرامتهم. فالحُرمَة لا تُباع، والحرية لا تُشترى، ولا مكان في عالمنا لعقل يرى الإنسان كموردٍ قابلٍ للاستنزاف. الاتجار بالبشر ليس فقط جريمة ضد الإنسان، بل خيانة جماعية لقيمنا الأخلاقية والحضارية. وإذا كانت المجتمعات البشرية تدّعي التحضر، فإن اختبارها الحقيقي يكمن في قدرتها على حماية الضعفاء من أن يتحولوا إلى سلع تُباع وتُشترى في أسواق النخاسة الحديثة.