في رواية جون وليامز الرائعة «ستونر»..

حين يشبه الكاتب بطل روايته !

كيف تسير بنا الحياة؟  بأية آلية تدفعنا في دروبها وأضيق أزقتها وأين تنتهي بنا الرحلة؟  أي شواطئ تأوي إليها أقدامنا وترتاح في أفيائها خطواتنا المتعبة؟ كأنما لسان حال هذه الرواية يقول سِيري بي يا دنيا، قلّبيني كيفما شئتِ، احمليني قليلًا كأّم رؤوم أو ألقِ بي في حفر وثقوب أنتِ صنعتِها وحفرتِها بيديك . هذي الجراح التي نصطحبها معنا حيثما ارتحلنا، هذي الندوب التي تَسم وجوهنا، دليل حروب وكفاحات خفية، هذي الروح التي تفيض من نوافذ مآقينا، ثقيلة حبلى مملوءة حتى الثمالة بنا، بكل ما به عبرنا ! هذه الرواية قد تكون عن عبثية الحياة، عن مهارتها في تحطيمنا واستمتاعها بمراقبتنا نسقط وتذوي أرواحنا بين فكيْ دقائقها، أو على الأقل هكذا كان شعور الكاتب حال كتابتها، فكل الأشياء الهامّة يحتقر بطله وليام ستونر من شأنها ويستهزئ بعظيم خطبها في صدره وأثرها على اهتزاز كل ثوابت حياته، الزوجة التي أراد من صميم قلبه أن تبادله محبة بمحبة، الابنة التي كانت في حياته كل حياته ثم استُلبتْ منه وعادتْ له آخرًا شبحًا من كينونتها التي كانت، طيفًا هائمًا، روحًا حائرة لا تستقر ولا تثبت، الجامعة التي وهبها عمره ووفاءه وحبه وأفنى بين جدرانها علمه ودراسته وزهرة شبابه، ثم في النهاية يتمتم كأنما يحاول إقناع نفسه قبلنا أن لا يهم، لا تهم الحياة، لا يهم انفطار قلبه هذا، ولا ارتحال كل ما يحب مبتعدًا عنه! «ستونر توفي عام ١٩٥٦، درس في جامعة ميزوري ثم مكث مدرسًا بها حتى وفاته» هكذا ومنذ البداية أنت تقرأ في حياة شبح، في مذكرات جسدٍ كان وارتحل، ستونر ولد لأبوين مزارعين، قضى طفولته يحرث ويشتمّ رائحة التربة الندية تجري بين أصابعه، يخشوشن جلده ببذر وحصاد مستمرين، ما كان لوالديه غيره وكانت خدمة الأرض التي منها معيشتهم واجبه كما كانت واجب أسلافه من قبله، لكن المنعطف الذي سيغير حياته يجيء من والده الفلاح القوي رقيق القلب والذي ما كان قريبًا إلى ابنه الوحيد في أي يوم من الأيام، اقترح والده أن يذهب إلى جامعة ميزوري ليلتحق بكلية الزراعة ثم يعود إليهم مجددًا مسلّحًا بعلمه، ما كان يخطر في باله أن ابنه ذاهب إلى غير رجعة، وأن عشق الأدب والكلمات سيستحوذ على كل كيانه ويرغمه طواعية على تغيير مسار دراسته، يذهب ستونر ذو التسعة عشر عامًا إلى الجامعة ليقع في غرامها مذ أول نظرة. كان جليًا كل الجلاء أن جون وليامز أستاذًا في الجامعة، كان جليًا أنه يكتب لنا من مقعد في مكتبه بها، وأنه يطلق بصره إلى ماوراء نافذته المشمسة قبل أن يعود منكبًا على آلته الكتابة متممًا لنا فصول هذه القصة التي وكعادة كل القصص الصادقة مكثت في الأرض من بعده حية تتنفس ككل الأحياء على ظهرها وأكثر. في الرواية وصف رقيق عذب للغاية لأروقة الجامعة وقاعاتها وحلول الربيع والشتاءات في أشجارها وصوت الصمت والصخب الذي يدور بين انعطافاتها، منذ أن وطأتها قدماه وهو قد منحها روحه وأخلص أشواقه وأصدق حب عرفه، يكبر ستونر ويُعيّن معيدًا في الجامعة وقد عرف فيما يشبه النبوءة أنه مكتوب له الحياة للأبد بين هذه الجدران، حينما يصادف قلبه حب آخر يتبعه فورًا ويصمم على الزواج بها، إديث الرقيقة النحيلة ذات الشعر الأشقر الطويل والأهداب السود الساحرات، لكن الزواج ما كان طيلة عمره سوى وتدًا آخر يضرب بكل قوته روح ستونر، كل تفصيلة فيه جاءت لتزيده مرارة، لتُمعن في شقائه، والعجيب أن الكاتب لم يقدم قط سببًا لهذا، كانت إديث تكرهه، لم تفصح أبدًا عن الشعور لكنه تفجر في كل تصرفاتها تقريبًا، ثم لم يكن لها من فضيلة سوى الثمرة الصغيرة المشرقة التي منحتها له ألا وهي ابنته جريس، كانت جريس نسخة من والدتها في روح أبيها، لا تضحك إلا له ولا تمرح إلا في حضوره، بينهما تفاهم وجاذبية وود طاغ لا ينكسر، وهذا ما سوف يشعل غيرة إيديث ، كانت الطفلة في السادسة حينما شنتْ عليهما حربها، صارت تستبقيها لنفسها وتمنع بحيل ووسائل لا تنتهي اجتماعاتها الصغيرة بأبيها وتُكرهها على أحدث فستانين الموضة وعلى صحبة بعينها وعلى الاختلاط قسرًا بمن سواها من الأطفال، شيئًا فشيئًا تحلل شيء في سويداء روح جريس وصارت في عجزها عن الهرب أو الاختفاء كائن هش ذابل لا صوت له ولا ضحكة ولا عزم، هكذا كان ستونر يرقب من بعيد صغيرته تتشوه وتذبل دون أن يستطيع التدخل فهذه والدتها وكل الوسائل التي تستخدمها مشروعة لا يشكك إنسيٌّ في نزاهتها! أما الجامعة التي كبر مقامه بها فلأجل موقف وحيد رفض التخلي فيه عن مبادئه حُورب كذلك فيها، إن ما أدمى قلبي هو أن هذه الحروب التي شُنت ضده من كل الجهات قد نجحت بحق في تحطيم روحه، لا ليست هذه قصة البطل ذي العزيمة الخارقة الذي نهض وتحامل وانتصر ، ولكنها قصة حياة واقعية تمامًا فالحروب التي نخوضها تأكلنا بحق تلتهم عزائمنا، أحلامنا وهممنا، لم يتحول ستونر إلى كائن جديد بل ظل هو نفسه الرجل العذب النحيل، لكن روحه شاخت وغزا الشيب رأسه وهو بعد في الأربعين وغارت عيناه في محجريهما، ثم فجأة دق الحب بابه وعادت المياه تروي روحه لكنه حبّ مكتوبٌ انقضائه قبيل مولده، محكومٌ عليه بالفشل، غير أنه ما ندم عليه قط. قرأتُ ذات مرة عن جوزيه ساراماغو، الكاتب البرتغالي الذي جرب أن يكتب ولما باءت تجربته بفشل ذريع استسلم وحشر كل أحلامه في زاوية بعيدة دون إعادة نظر،ثم في ذبول حلمه وعمره قابلها، بيلار، حبه الحالي والقادم حتى مماته، كانت بيلار كمطر انثال في روحه وبث فيها من حياتها مجددًا، شجعته أن يكتب مرة أخرى فوُلد لنا أعظم كاتب في جيله، وكتب روايات مخلدة لا تُنسى، وكانت كل رواياته ممهورة بإهداءات لها «إلى بيلار كل الأيام، إلى بيلار حبيبة القلب»، ذهلتُ وقتها كيف لحب صادق وحيد أن يحييك حرفيًا من جديد، ويعيد لك كل أشواقك وأحلامك وصبابتك الأولى، هذا ما فعله ذلك الحب القصير لستونر، ولو لم تكن قصة ساراماغو قد مرت بي لاتهمتُ الكاتب بالإسفاف والمبالغة. «ماذا كنتَ تتوقع»؟ في نهاية حياته بينما يراقب أيامه الأخيرة تطوي عمره في سرعة مرعبة، يطرح ستونر هذا السؤال على نفسه، ما ذا كنت تتوقع أن تجني من هذه الحياة؟، ماذا كنت تتوقع أن تحقق فيها؟! ماذا كنت تتوقع أنك واجد بها غير الخواء والانكسار والذبول؟! بحثت عن كاتبها جون وليامز ولذعري  وجدته شديد الشبه ببطله ستونر، ذات القامة والمهنة والأحلام المدفونة بين كتفيه المترهلتين، لكن المعلومات عن حياته شحيحة حقًا وكأنه تنبأ بهذا في خاتمة بطله ستونر حيث لا يبقى له ذكر سوى اسمه مطبوع داخل غلاف كتاب مهدى إلى الجامعة عن أدب القرون الوسطى، يمرّ به الطلاب سريعًا متسائلين عمن يكون هذا الإنسان قبل أن يعيدوا الكتاب إلى الرف ويمّحي اسمه من أذهانهم تمامًا. هكذا تطوينا الحياة قصةً بعد قصة .