
بعد أن انتهيت من قراءة مجموعة (رسائل متأخرة ) للقاصة طاهرة آل سيف والصادرة عن دار (يسطرون)، والتي اشتملت على مجموعة قصص جريئة في فكرتها وتناولها الاجتماعي. تساءلت لماذا العنوان رسائل متأخرة، و لم يكن (رسائل صامتة) فالصمت أبلغ في الإيلام وإيصال الفكرة . تقدم القاصة مجموعتها بهذه المقطوعة «يا صمت ... مازلنا هائلين ! أنت تتمنـــع عــن القول ونحــن نتصنع السكوت» اختارت هذه المعزوفة لتكون بوابة العبور لقارئ قصص المجموعة، والتي تهدف لكشف خفايا المسكوت في رسائل مغلقة بمقص سردي محترف بدون أن تمزق ظروفها أو تقطع حروفها . المجموعة عبارة عن رسائل متنوعة ووفقا لرؤية ميلان كونديرا «أن المراسلات هي من الطرق التي كتبت بها أهم العلاقات الإنسانية لأن الرسائل تنطق بالفكرة» وتدخل الكاتبة في هذا النوع من الأدب في تفاصيل الوعي واللاوعي في الكتابة السردية وتعيش الحدث لأجل الكتابة عنه لدرجة تصبح الكتابة كالمقص الناعم الذي يفتح ما بين السطور. يظهر على الغلاف لوحات تمزج بين السوريالية والكلاسيكية وريشة فنية ترسم الطفولة وصورة امرأة في الأعلى تمزج بين الواقعية والتخيلية، لتبين مدى تنوع الرسائل في قصص المجموعة التي تضمنت الجوانب الاجتماعية والإنسانية والعائلية وقضايا حساسة وعاطفية، ولكن سأتوقف عند رسائل الأمومة التي تناولتها الكاتبة بكل صورها، وبالأخص الصورة التي تنهار فيها مثالية الأم ! تناولت الكاتبة في قصتها الأولى من المجموعة المعنونة بـ (الكتاب الأخير) رسالة كتبت بحبر باهت وحروف سوداء ونقاط باكية وفواصل أمومة مغيبة من بين سطور الابن (عبدو) الذي تركته والدته في قمامة الحياة، وهربت مع زوجها و(كلبها) الذي رأفت به أكثر من ابنها ـوهنا مفارقةـ لماذا اختارت الكاتبة في سياق القصة رأفة الأم بكلبها وتركت ابنها؟! ما هي الرسالة المتأخرة التي لم تصل في هذا التناقض لمشاعر الأم التي ترأف بالكلب ويصبح قلبها كالحديد على ابنها. هل تريد أن تصف الحياة المعاصرة وتأثيرها على مشاعر الأمومة؟! أم أن رأفتها بالكلب لتحافظ الكاتبة على الاتزان في مشاعر الأمومة في أقسى عقوقها لابنها؟! فهي مازالت تمتلك مشاعر الأم تجاه الكلب حتى لو فقدتها تجاه ولدها! وتركته للتشرد والضياع وقسوة الحياة، أم أن الكاتبة لا تريد تدمير صورة المرأة وتجريدها من مشاعر الإنسانية والأمومة كاملة؟! قد تتضح هذه الوقفة حينما تصور علاقة (عبدو) الابن الذي عقته والدته من قسوته في تعامله مع زوجته وتعنيفه لها. رسمت القصة صورًا متناقضة بين عنف (عبدو) الرجل القاسي تجاه المرأة (زوجته) وقسوة المرأة (والدته) تجاه الرجل ابنها، هذا التلاعب بالمشاعر في السياق السردي أبدعت فيه الكاتبة، كما أبدعت في رسم صورة الإنسان داخل (عبدو) الابن، الذي ظل خيال والدته يطارده، ففي الوقت الذي يضرب زوجته لإثبات رجولته، إلا أنه يشعر بانكساره حينما يتذكر لحظة هروب والدته مع كلبها وتركه في كيس قمامة !. يبدو أن القاصة تعاطفت مع معاناة بطل قصتها (عبدو) فسكبت عليه لمسة إنسانية حارقة فما زال يحتفظ تجاه والدته بمشاعر الابن البار، اكتشفها البقال (كريم) عندما نفض كتب (عبدو) بعد موته وسقطت منها آخر ورقة في أمنيات ذلك الكائن المشرد الذي تركته أمه بين أنياب الحياة والمزابل، فكانت رسالة كتبها ستالين لوالدته ولكن مات (عبدو) ولم يعرف أحد هدف الرسالة هل كان يقصد منها أنه يشبه نفسه (بستالين)، وتعكس رغبة سادية تجاه المجتمع، أم أنه كان يتمنى أن تكون لدى والدته نفس مشاعر (أم ستالين)،والتي كانت طبيعيّة ومحبّة –كما تثبتها عشرات الرّسائل المحفوظة بينهما-. في القصة أو الرسالة الثانية (على الجسر طيف يترنح) تناولت الكاتبة علاقة الأم من زاوية طفل التوحد تبدأ بوصف المشهد، وهي تقود سيارتها على الجسر وركل طفلها لمقعدها بطريقة أربكتها في القيادة كادت أن توقع بهم السيارة خارج الجسر في لحظات ارتجاجها. رسمت الكاتبة ووصفت لحظات ومشاعر الأم تجاه طفل التوحد في لحظة انحراف السيارة لدرجة أنها تجد وقتًا في هذه الدقائق المعدودة لتشخيص الجانب النفسي لأمومتها منذ النطفة الأولى لطفلها التوحدي إلى عبثه داخل المنزل بالأثاث، لتكشف في تلك اللحظة للمتلقي صعوبة تربية الأم لطفل التوحد اختيار الكاتبة ( للفلاش باك) في لحظة حرجة وصعبة للأم قدمت فيها القاصة تكنيك سردي بارع في استعادة معاناة الأم مع طفلها التوحدي منذ ولادته، وحتى اللحظة الفارقة بين الحياة والموت بسبب عبث هذا الطفل لدرجة أنها كانت تختبر مشاعر الأمومة في أصعب لحظاتها وآمالها في النجاة وعودتها للحياة. لكن الأم تنتصر للأمومة باختيارها طفلها بكل صعوبات تربيته ورفضت طلب أبيه نقله لمركز علاجي بعيدا عنها. « المهم أن نموت معا في نفس الوقت .. فرعايته مخاض لا يحتمل» يحضر في قصة (غبش) الموت المجازي ليكون أشد إلامًا وقسوة حينما يكون موت (الأم) مجازيًا وتنهار صورتها المثالية عند ابنها، وتتمزق العلاقة بينهما حينما يكتشف خيانتها لأبيه بعد ان يتبعها في الليل، ويراها تغرق في قبلة مع رجل فارع الطول وتتمرغ في الوحل معه! «وأمي ماتت اليوم. أو ربما بالأمس، لا أعرف». وأنا اقرأ القصة استحضرت هذه العبارة المؤلمة لألبير كامو في روايته «الغريب»، ولكن بطل قصة (غبش ) كان أكثر مرارة من (ألبير) حينما تحطمت صورة أمه « صباح استيقظت على صوتها تبحث عني بوجل، رنوت الى حضنها فتحت عيني وأغمضتهمــا مرارًا لكنــــي لم أعد أراها». انتزعت الكاتبة في هذه القصة (الأم) من عدمية الموت مجازيًا أو أدبيًا، ومن صورتها المثاليةً، بل وأعادت ترتيب دورها في الحياة فهي بشر تحتمل الخطيئة، وليس –كما عهدنا- في رسائل الأدب دائمة النبل والمثالية، وإن كانت حالة فردية عاشتها بسبب قسوة الأب وجفاف مشاعره، ففي القصة لم تأخذ صورة الأم المناضلة كما في رواية «الأم» لمكسيم غوركي، ولا كما هي (الأم) عند الكاتب محمد شكري، في (الخبز الحافي)، ففي النهار والده قاسي، وينكد على والدته بل يصل به الأمر لضربها، لكن في الليل تنسى الأم قسوة زوجها ، عندما تجتاحهمـــا الرغبــــة في ممارسة العلاقة . صورة ( قصة الحائط) مشاعر الأم الموجوعة بآلام الفقد في طفليها وتوغلت في معاناتها حينما يكون أحد أحفادها شبيهًا بطفلها المفقود. في ثنايا القصة كان الأب الذي يظهر بصورة الرجل القاسي الذي تنازل عن (دية) ممن صدم ابنه بالسيارة، بل وانتقل لمبنى سكن جديد محملًا (الأم) الخطأ، ولكن دهشة الإبداع في اللقطة الدرامية للأم الثكلى وهي تكتشف خلسة لحظة الانكسار والانهيار لمشاعر زوجها (الأب) في المستودع، وهو يحتضن قميص ودراجة طفليه ويبكي لكنه يمسح دموعه عندما تراه متعللًا بأنه يمسح الغبار وليس الدموع! اشتملت المجموعة أيضًا على رسائل متنوعة تحتاج للوقفة والقراءة.