«سيرة من رأى» لعثمان الصيني..

احتجاب الذات وراء حكايات الناس والأمكنة.

منذ بدأتْ بشائرُ صدورِ كتاب (سِيرَةُ مَن رَأى) للدكتور عثمان الصيني وأنا أتطلَّع إلى قراءته، وقد طلبتُ من أحد الأصدقاء إحضارَهُ من مَعرِض الدوحة، في مايو الماضي، غير أن دار النشر اعتذرت بأنَّ شحنَ كتبِ المعرِض سَبَقَ خروجَه من المطبعة، ثم ظفرتُ به الأسبوع الفائت في المكتبة التراثية بالرياض، وبينما أنا أتصفَّحُهُ في بهو الفندق نُبئتُ أن الدكتور عثمان الصيني قد أودَعَ لي نسخةً من الكتاب في نادي أبها الأدبي ممهورةً بإهدائه الكريم. كُنتُ أتطلَّعُ إلى قراءة سيرةٍ ذاتية تحكي حياةَ الدكتور عثمان الصيني منذ الطفولة حتى تدوين هذا الكتاب، وهي لا شك سيرةٌ غنية لباحث وأديب وأكاديمي ومثقف وصحفي من طراز رفيع؛ واكبَ مسيرةَ هذه المجالات المتعددة، وخاضَ مُعتركها نحو ستين سنة، غير أنني كلَّما أوغلتُ في القراءة اكتشفتُ أن شخصية الدكتور عثمان الصيني الهادئة، والمتأملة، والعميقة، هي صفاتُ هذه السيرة أيضًا؛ فقد آثر الصيني أن تتوارى سيرتُه الذاتية خَلْفَ حكاياتِ الناسِ والأمكنة؛ فأنت إذ تقرأ (سيرة من رأى) ستجول في المسجد الحرام، وتمر بالبسطات، والدكاكين المجاورة، وتسلك الطريق بين مكة والطائف، وترى وادي السيل، ووادي وجّ، وتدخل مسجدَ ابن عباس، وتطالع مكتبتَه الغنيةَ بالمخطوطات، وبَرَحَة العباس، ودكاكين الباعة على تنوعهم، وتقرأ عن بضائعهم، ومن أين يجلبونها؟ وكيف تُصنع؟ وستسلك الدروب بين الحارات، وتتعرَّف على الأحياء القديمة والناشئة، وستُجالسُ الفقهاء، وتستمع إلى حواراتهم، وآرائهم في قضايا عصرهم، وسترى تجمعات الجالية اليمنية، وتعرف هموم وطنهم، وستعرف علوم الرجال، وعادات القبائل، وكيف تُدارُ الأفراحُ، ومَسامِرُ الحفلات؟ وستُنصِتُ لحوارات النخبة الثقافية الناشئة، وميولاتهم المختلفة، وماذا يقرؤون؟ وكيف يتداولون الكتب؟ ومن أين يقتنونها؟ وستقرأ عن مجالس الطرب، وليالي السَّمَر، والأسماء الفنية التي نشأت في الطائف أو مَرَّتْ بِهِ، وعروضِ السينما التي شاعت قبل ظهور الفيديو، والفِرَقِ الرياضية. وستقرأ عن مدرسة دار التوحيد، ومدارس التعليم العام، وستعيش مع الطلاب في نشاطاتهم، وتُشرف على حياة المجانين، ويوميات الدراويش، وستخطو مع جمعية الثقافة والفنون بالطائف خطواتها منذ كانت فكرة، حتى أصبحت من أهم جمعيات الثقافة في المملكة، وستكتشف في جملةٍ واحدةٍ عابرة أن شابًّا طموحًا اضطر إلى تغيير وجهته؛ والتخلِّي عن بعثته ليبقى إلى جوار أسرته بعد وفاةِ والده، وستقرأ عن الجامعة وانحيازات الطلاب الجهوية، والثقافية، والفكرية، وستقرأ عن أساتذة من العلماء، وستقرأ عن الفُصحى في لهجات القبائل، وعن مصاعب البحث العلمي، وعراقيلَ في طريق الباحث الأكاديمي الجاد. وستقرأ عن نشأة الحداثة، من داخلها برؤية واعية، وهادئة، وستقرأ عن خصومها بالقدر نفسه من الوعي والهدوء؛ فلا بطولات، ولا ادعاءات، ولا أوهام. ولن يدفعك الكاتب إلى أن تغضب من أحد، ولن يجعلك تكره أحدًا، أو يرفع سترًا يكره صاحبُه أن يُكشف. ولن تجد خصومةً ذاتيةً، ناهيكَ عن التشهير بِمُخْتَلِفٍ أو مُخالف، ولن تجدَ عدوًّا متربصًا؛ وما ذلك لأن الحياة صَفَتْ للكاتب؛ وإنما لأنه أرفَعُ من تصفية الحسابات، وترسيخ الضغائن، فإن روى حادثةً فإنما يعرضُها للتاريخ، دونَ أن يُعَرِّضَ بأطرافها، أما خصالُ المروءةِ والنبلِ فما أبلغه في التنويه بها. ولن تجد رسمًا لخطوات المؤلف، ولا كشفًا عن دواخلِ ذاتِه، وعميقِ آلامه وآماله، كلا؛ فما هو إلا جزْءٌ مما يَحكِي؛ بجوار جَدِّهِ في بسطته يبيع صورًا لمعالم الحرمين الشريفين، وفي دكان أبيه يرصد الباعة والشارين، ثم تراه تلميذًا كسائر التلاميذ في مدرسة دار التوحيد، أو واحدًا من طلاب كلية اللغة العربية شَطرَ مكة المكرمة، أو معلمًا إلى جوار أساتذته في دار التوحيد، أو محاضرًا في كلية المعلمين، أو عضوًا ضمن أعضاء جمعية الثقافة والفنون، أو عضوًا مع آخرين في نادي الطائف الأدبي؛ ولو أن باحثًا جَمَعَ حديث الكاتب عن نفسه لما ظفر بغير سطور منثورة في مواضع يُحَتِّمُها السياق؛ غير أنكَ واجدٌ ذاتَ الكاتبِ تَجوسُ خلالَ هذه الصفحات الثلاث مئة ونَيِّف، تمنحها حياةً مَوَّارَةً، تَروي المكان والإنسان عن ذاكرةٍ واعيةٍ، بأسلوبٍ أدبي، وحسٍ صحفي، ونظرٍ ثاقبٍ؛ فكأنما تقرأ تعليقًا على مشاهدَ تَعبُـرُ خيالَك. ولن تجدَ هنا سيرةَ الصحفي المخضرم؛ كاتبًا ومحررًا، ورئيسَ تحريرٍ لعددٍ من الصحف والمجلات؛ وأحْسَبُ أنَّه سَيَخُصُّ هذه التجربة الصحفية المهمة بسردٍ آخر؛ وما أجدرها بذلك، وما أحوج الأجيال لتوثيق تجربته الصحفية الغنية في كتاب. وسيكشف لك هذا الكتاب عن مثقفٍ موسوعيٍّ؛ له معرفةٌ بكُتب التراث؛ الدِّينِيِّ منها والأدبي، ناهيك عن اطلاعه على الكتب المعاصرة، في فنون الفكر الإنساني المختلفة. وإنك واجدٌ ذاكرةَ رجلٍ جمعتْ ووعتْ، وقلمَ كاتبٍ أوتيَ أسلوبًا رائعًا، في سرد الحكاية، واستمطار الذكريات، وجمال الاستهلال، وحسن التخلص؛ ودقة الترتيب، والتوفيق إلى أحسنِ تبويب، وحضور الشاهد الشعري من الفصيح والشعبي؛ في مكانه تمامًا، وتوظيف المثل الشعبي على أكمل وجه. وستقرأ عن حوادثَ، ورجالٍ، ومناسباتٍ تُروى في اعتدال واحترام؛ ربما حلل الموقف، أو فسَّره، ولكنه لا يدفعك إلى إدانته أو تبنيه؛ وتلك لَعَمْرُكَ خَصِيصَةٌ قَلَّ أن تظفرَ بها في كتابٍ يُقارِبُ سيرةَ مؤلِّفِه، وإنها لكفيلةٌ بأن تملأك دهشةً لهذه القدرة غير الـمُتَكَلَّفَة، وهذه الطبيعة الإنسانية التي تفيضُ بِنُبلِ الكلمة، وأمانةِ الرواية، وشفافيةِ الرؤية.