في رواية «منقذة أختي» لجودي بيكولت ..

قصة كفاح وفلسفة المرض والعدل .

مَن قال إن المريض حين يمرض تطاله الآلام وحده؟ مَن قال إنه فقط من يتأثر ويتوجّع ويبكي، ويمضي ليالٍ بأكملها مؤرقًا ساهرًا؟ مَن قال إن السنوات التي قضاها بين أسرّة المستشفيات، وبين اختيار أقل الأماكن في جسده تعرضًا للحقن استعدادًا لحقنها من جديد، وبين مراقبة نحوله وتداعي أعضائه وذبول جسده كأنما يمرّ بعملية تحوّل لطيف شبحي... مَن قال إنه وحده من يمرّ عبر كل هذا؟! إن المريض يصطحب معه أهله. إن كان ثمة شقيق بعيد، فأصابعه ستمتدّ ملتفّة حول يده، وشقيقة ستصبح المؤنس الوحيد، والجسد الذي يشغل كل أسرّة مرافقي المرضى في غرف المستشفيات. أب؟ بالطبع، بكل جهده ودموعه وكفاحه ومدّخراته. والأهم: الأم. إن الأم تضع قلبها، وعمرها، وحياتها، وكل تصرّف، صغيرًا كان أو عظيمًا، في سبيل قضية شفائه. لا تعود ترى غيره، ولا يشغل بالها إلا الخطوة الجديدة في مرحلة علاجه. لا تبكي إلا في انتكاساته، ولا تضحك إلا لشفائه. سُهادها لأجله وحده، روحها، وقلبها، ويدها، وحضنها... لم يُخلقوا إلا له! «منقذة أختي» تحكي عن هذه النقطة تحديدًا. يمكنك أن تدرك هذا ببساطة حين تجد شقيقة المريضة هي التي تتحدث بلسانها، ثم الأب، ثم الأم، وحتى الشقيق الأكبر، الذي نُسي في غمرة الانشغال بالابنة المريضة التي وُلدت بعده. لكن لا صوت للمريضة، ولا كلمات تُنسب إليها طوال مسيرة الأحداث. ماذا لو قرّر والداك إنجابك لتكوني قطع غيار لشقيقتك المريضة؟! هذا هو السبب الأهم والأوحد لمجيئك إلى هذا العالم الغامض الاستثنائي، حسب علمك. لا يعني ذلك أنهم لا يحبّونك، أو أنهم لا يفعلون لأجلك المستحيل، لكنه يعني كذلك، وبكل بساطة، أن يُسحب منك، كل بضع سنوات، دمٌ، نخاع، نقيّ عظام، أو حتى كلية! في عامها الثاني، تكتشف سارة كدمة بحجم عملة معدنية مدموغة على ظهر ابنتها كيت. تصطحبها إلى المستشفى للاطمئنان فقط، وهي تأمل أن تنتهي الزيارة بكوب عصير ومضاد حيوي. بدلًا من ذلك، وبعد سلسلة طويلة لا تنتهي من التحاليل والحقن التي تسحب الدم من عروق الطفلة المتألمة الذاهلة، تكشّر الحقيقة بوجهها القبيح في وجهي الوالدين المذعورين: لوكيميا. أي سرطان الدم. أي حياة كاملة لن تكون إلا لأجل كيت. أي عمر من الفحوصات، والألم، والتداعي. وبعد أن أظهرت الفحوصات عدم تطابق ابنهما ذي الأعوام الأربعة مع كيت، تُقرّر سارة أمرًا مجنونًا، يدفعها إليه يأسها وهلعها من أجل طفلتها الصغيرة، وهو إنجاب شقيق متطابق تمامًا مع كيت، ليكون المتبرع الحاضر والجاهز دائمًا لإنقاذ شقيقته. وهكذا تُولد آنا، منقذة أختها. ومنذ مجيئها بصحة جيدة، تعتاد غرف المستشفيات أكثر من بيتها. وفي كل مرة تُصاب فيها كيت بانتكاسة، تُسحب آنا معها في دوّامة لا تنتهي من عمليات النقل والوهب. آنا تعشق شقيقتها، لكنها لا تستطيع أن تحجب عنها هذه الفكرة التي تراودها: تُرى، كيف سيكون شكل الحياة لو رحلت كيت إلى الأبد؟ تبدأ الحكاية حين يُقرَّر أن تهب آنا إحدى كليتيها لكيت. مذعورة، ويائسة، ومضطربة، تتجه آنا نحو مكتب محامٍ شهير، وتطلب رفع دعوى قضائية ضدّ والديها، لسحب الوصاية الطبية لهما عليها! أين تقع الأخطاء؟ على الجانب الأيسر أم الأيمن؟ من يستطيع تحديد موضع الخطأ بدقة تشريحية لا غبار عليها؟ أنّى للقاضي قدرة رفع مطرقته فطرقها بصوت عالٍ مجلجل، ثم النطق بالحكم النهائي؟ كيف نحدّد المذنب منّا؟ الشخص المسؤول بعينه عن الجُرم الذي كان؟ من له حقّ هذه الصلاحية؟! من المخطئ؟ آنا أم سارة؟ الطفلة التي تحاول الفرار، أم الأم التي تتمسك بمخالب من حديد بحياة ابنتها الأخرى؟ «فقط هذا الإجراء الأخير يا آنا!» «فقط كلية أخيرة، وعضو أخير يُنتزع منك للحفاظ على حياة شقيقتك المحتضرة!» أفنُجرّم الأم التي تهب الحياة، ككل الأمهات، لطفلتها؟ أم نلوم الأخت التي لا ذنب لها ولا جُرم سوى محاولة أن تحيا هي أيضًا؟ ما هو العدل؟ ما هو الصواب؟ أين تختبئ الإجابات؟ هل تخسر آنا عضوًا حيويًا منها؟ أم تُترك كيت لترحل أخيرًا، وتلفظ أنفاسها بهدوء، وتخسر المعركة التي لم يكن مقدّرًا لها أن تُكسب منذ البداية، ضدّ داء السرطان الذي يلتهم جسدها وينهشه حيًّا؟ هذه هي الأحجية التي ما انفكّ والدا الفتاتين يحاولان حلّ عقدها المتشابكة، منذ تلقّيهما نبأ مرض كيت، ومجيء آنا إلى الحياة بعدئذ. سارة خسرت الكثير في خضمّ معركتها العاتية مع سرطان كيت. خسرت طفليها الآخرين السليمين: الابن الذي تاه في هذه الحياة دون معين أو مرشد، والابنة التي تدفع ثمن سلامتها، ثمن كونها الشقيقة المعافاة، النصف المتطابق الذي لا يعاني! هذه الرواية هنا تسجيل وتوثيق حيّ للمعاناة القاتمة التي يُلقيها مرض السرطان على عائلة المريض، وللقتال الصامت طيلة سنوات، ضد خصم لا يعرف الرحمة، على أمل الفوز ببضعة سنوات أخرى بجوار الجسد العزيز المعتلّ. كُتبت بأسلوب عذب، سلس، وبأفكار شاعرية تدور بحرية في مخيلة أبطال القصة: أفكار عن النجوم، عن الأحلام، عن الأمنيات القديمة، الذكريات السعيدة المعدودة، وعن المستقبل، وعلى أية هيئة قد تأتينا أيامه. جودي بيكولت تبدأ روايتها باستهلال تحكي فيه عن ابنها، الذي أُجريت له عشر عمليات جراحية خلال ثلاث سنوات. تخبرنا أنها هي هذه الأم المكلومة، التي عاشت، وراقبت، واختبرت معاناة طفلها خلال مرضه الجسيم، والسنوات التي قضتها في حجرات المستشفى، تبكي وتدعو وتتساءل وتحتضن فلذة كبدها. وهكذا، وبقدرة الكاتبة الكبيرة التي أُوتيت، شرعت في كتابة قصة بها بعضٌ من هذا، وبعضٌ من ذاك: قليل من الخيال، مع استحضار واقع المرض القاسي بكل وأدقّ تفاصيله