الحج في السير الذاتية السعودية.

ينطوي العنوان على مفردتين تستحقان التوقف أمامهما في الأسطر التالية: فالحج رحلة إيمانية شجية بين المشرق والمغرب، وكتحصيل حاصل، الحج إرث ثقافي وإنساني هائل، منذ أن أمر أبو الأنبياء ببناء البيت العتيق، ومنذ أتاه الأمر الرباني (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق). وهو يشغل الذاكرة الإنسانية، مسلمًا وغير مسلم، على مر العصور بصفته المكون المعرفي الذي لا نضير له في ذاكرة الإنسان المسلم وغير المسلم، أولًا بصفته العقيدة. وثانيًا: بصفته (المحمولات الإنسانية والثقافية). العقيدة التي يتلقاها المسلم ويتربى عليها بالاكتساب والمحاكاة، ثم الوعي والإدراك فيما بعد، يقف المسلم على جوانب من حدوده في وقت مبكر من العمر من خلال البيئة المحيطة، ثم تأتي مرحلة الوعي الاعتقادي. من هذه العلاقة العميقة بين الحج وبيئة المسلم، يشغل حضوره مساحات واسعة في ذاكرة المفكرين والأدباء والشعراء، وحين يصبح الأديب قارئًا أو كاتبًا يقترب أكثر من تلك الذاكرة الثقافية. ومن الطبيعي أن يحضر (الحج) بكل أبعاده الروحية والزمانية والمكانية في النتاج المعرفي العالمي من منطلق عالمية الإسلام عامة، والأدب بصفة خاصة. في كل العصور يحظى الحج بتدوينات شتى قديمًا وحديثًا، من خلال التوثيق المكتوب سواء في الشعر أو المقامات والسير الشعبية، أو أدب الرحلات، أو أدب السيرة الذاتية. كذلك رافقت تلك التدوينات دراسات وأبحاث قامت على أدب الحج. في العصر الحديث ظهرت تدوينات الحج مثل التصوير، والرسم، والأفلام، والمسلسلات، كما حظي الحج باهتمام كتاب الرحلات والسير الذاتية حديثًا بصور مختلفة. تناوله الأدباء والشعراء في كتاباتهم الذاتية، ومما يعزز الحضور المهم للحج في المعرفة قديمًا وحديثًا الكتب والدراسات النظرية والتطبيقية، والمقالات موضوعها الحج. وقد حظيت الرحلة إلى الحج بعناية خاصة من الرحالة والمؤرخين والعلماء عبر مراحل التاريخ الإسلامي، تعددت وتنوعت فأمدت المهتم بموضوع الحج بنتاج رحلي ضخم لكل من ارتحل إلى المدينتين المقدستين بقصد الحج أو لمقاصد أخرى. تحمل تلك المؤلفات توثيقًا تاريخيًا للزمان والمكان المخصوصين، حيث وصف المؤرخون والرحالة هاتين المدينتين في كل شاردة وواردة، وكل صغيرة وكبيرة، بصفة الحج ومناسكه تظاهرة عالمية كانتا وما زلتا محط أنظار العالم. فالرحالة يقصدونهما لتأدية ركن من أركان الإسلام، وتحقيق منافع أخرى مثل الالتقاء بالعلم والتعارف، ومناقشة القضايا الإسلامية في كل مناحي الحياة، والنهل من العلوم والمعارف. وقد عرف عن العلماء الذين رحلوا إلى مكة والمدينة مناقشة مسائل علمية دقيقة، ومطارحات فكرية سديدة، حيث أرخت للحرمين ولعلمائهما، ووصفت السكان والمناشط الحياتية. اتصف الرحالة في كتابة رحلاتهم بالوصف الدقيق، والتقصي الشامل لكل ما شاهدوه وعاصروه، لذلك تتميز كتبهم بكل متعة وإمتاع. في العصر الحديث ازداد انشغال ذاكرة المفكر والمثقف بكل ما له صلة بالمدينتين المقدستين وشعائر الحج والعمرة تلقياً ونتاجًا. وفي الأدب العربي يحضر كتاب (الحج في الأدب العربي) للأديب عبدالعزيز الرفاعي، الذي استعرض فيه تأثير الحج في الشعر ما قبل الإسلام ثم بقية العصور إلى عصرنا الحاضر. كذلك ظهرت وثائقيات الحج تعرض مشاهد الواقع قديمًا، مثل فيلم “ذكريات الحج” الذي يوثق رحلة الحجاج في الماضي. بالإضافة إلى ذلك، هناك أبحاث وسجلات ترصد تطور خدمات الحج عبر العقود الماضية، وكيف كانت الرحلة في السابق محفوفة بالمخاطر، وما تتطلبه من الصبر والإيمان. السيرة الذاتية أما الشق الثاني من عنوان المقال فهو (السيرة الذاتية) ةالتي كانت وما زالت تستهوي القراء، إذ تقربهم من شخصية صاحبها التي كتبها بقلمه وعاشها بجسده وفكره، والسير عبر مرحلة زمنية سابقة، حديث السنين الماضية من العمر. لذلك عرفت بأنها نص استعادي. قراءة السيرة الذاتية تقرب للمتلقي وقائع النجاحات والتحديات لصاحبها، وتحول واقعه النظري إلى تطبيق، فتلهم القارئ نماذج مشاهدة وحياة حقيقية وقدوة حية. بعض القراء يتتبعون أحداث نجاح أصحاب السير ويقتدون بهم، وكم من قارئ صنع من مشهد قرأه حدثًا مثيرًا والناس في نهاية الأمر نتيجة لما يقرؤون ويسمعون ويرون. كل صاحب سيرة يفعل مثل من سبقه، ولم يطلع على اشتراطات ونظريات السيرة الذاتية، فقط يؤمن بأنه صاحب تجربة وتستحق التمرير إلى الآخرين. يحكي الكاتب حياته الماضية بقلمه، فهو الموضوع وهو الراوي وهما أحد مكونات الخطاب السيري. شخص واقعي من لحم ودم، يسرد الخطاب بضمير (الأنا) أو ضمير المتكلم الذي يظهر في معظم السير، وخطاب السيرة الذاتية هو خطاب السارد نفسه، وأحيانًا يسرد بضمير الجماعة (نحن). تتفاوت السير الذاتية في التعبير عن حيوات كتابها من كاتب إلى آخر، بعضهم يتخفى بالأقنعة والسرد بصيغة الغائب، كقولهم (صاحبنا أو الفتى أو الراوي أو اسم مستعار مثل طريقة طه حسين في أيامه)، وبعضهم يؤثر الحضور الفعلي لشخصيته. ذاكرة السير الذاتية السعودية وحين نقف على سيرة الحج في ذاكرة السير الذاتية السعودية، نلتقي الكثير من المدونات التي احتفت بموضوعه. وقد شكل الحج أحد مكونات ذكريات أدباء الحرمين، حيث وثّقه العديد منهم، سواء أدى المناسك أو حضرها أو عاشها أو تعمق فيها قراءة وتفكيرًا، فدونت في يومياتهم. تبقى دومًا مكة المكرمة والمدينة المنورة مكانًا ثقافيًا مُلهِمًا للحفر والاندهاش الثقافي والمعرفي، وقراءتهما قراءة ثقافية وأدبية توازي قيمتهما التاريخية والحضارية. ومن يقرأ أدب الرحلة وأدب السيرة سيجد دهشة وانبهار المسلم وغير المسلم. أما الوقوف على سيرة الحج في السيرة الذاتية بأقلام أدباء بلاد الحرمين، تحضر بعض الأسئلة التي تفرض نفسها عن مدى عمق علاقة الحج بالكاتب، مثل: هل سنجد مستوى حضور الحج المكتوب في سيرهم نفس مستوى طريقة أدب الرحلة العربي والغربي؟ كيف وثّق أصحاب السير الحج من خلال تجاربهم الذاتية أو الغيرية؟ هل ما دونته السيرة الذاتية عن رحلة الحج يتصف بالتفاصيل والدقة المأمولة؟ تجربة الحج في الماضي رحلة مليئة بالتحديات والمشقة مقارنة بالتسهيلات المتوفرة اليوم، هل نجح أصحاب السير في إدهاش القارئ بها؟ هناك قصص مؤثرة ومثيرة عن الحج في الماضي، هل سنجدها في السير الذاتية؟ هل كتبت سيرة ذاتية متكاملة تتناول تجربة الحج بشكل إبداعي مختلف؟ ومن الموضوعات المدونة في السير الذاتية موضوع هذه الدراسة: الإجراءات المتبعة في إدارة الحج قديمًا وحديثًا، رحلة محمل الحج المصرية والشامية، وصف أمكنة سير الحجاج، ممارسة العمل في موسم الحج، منتجات البيئات المختلفة المحلية والقادمة، المواصلات التقليدية والحديثة، الخدمات المتوفرة في المناسك قديمًا، صعوبات الرحلة إلى الحج والتنقل، مخاطر تواجه الحجيج في الرحلة، قيادة الملك المؤسس لموسم الحج، المقارنات بين تحولات التطور في الأماكن المقدسة. الحج في 11 سيرة ذاتية قرأت ما يقارب من ثلاثين سيرة، حضرت سيرة الحج في إحدى عشرة سيرة وهي: 1. مذكرات طالب حسن نصيف ط1 (1376) أول إشارة إلى الحج في المذكرات كانت أثناء الكتابة عن والده في مرحلة تفكير إدارة المعارف في افتتاح مدرسة تحضير البعثات بمكة: ((وكان الوالد في مكة عقب الحج وقدم اسمي للمعارف)) (ص37). وفي عنوان (الحج على الحمير) سجل ذكرياته مقارنًا بين الماضي والحاضر في وسائل المواصلات والتواصل والاتصال في الحج بين 1950–1960، وهو في زمن كتابة مذكراته بعد التحولات والأخذ بأسباب الحضارة في مناحي الحياة: (رحم الله زمنًا مضى… لم تكن السيارة ولم يكن الراديو والمسجل والكهرباء. أما نحن فقد عشنا أيامنا الأولى في زمن الحمير.. حججت وأنا صغير مرتين على الجمال وقطعت الطريق من جدة إلى مكة في يومين…). وحين أدرك سن البلوغ يقول: “اشتقت شوقًا كبيرًا إلى أن أحج حجة الفرض…” فوقع في مشكلة نقل رغبته إلى والده، فكيف يخبره وهو لم يعتد الجلوس في مجلسه؟ كان والده يحج كل عام وهو برفقته، لكن ولده لم يرغب في الحج في ذلك العام بسبب ضيق الأحوال المادية. وبعد مشاورات بعثه مع عمه للحج، فنقلتهم في هذه الرحلة سيارة من جدة إلى مكة، وفي مكة انتظرهم (حمار) كانت مهمته نقل الماء. ويذكر معانته مع الحمار القوي وغضب عمه عليه بسبب أنه يسبق على قدميه، وحين أصبح موظفًا في شؤون الحج يجد معاناة الانتظار في سيارته بسبب الزحام، فاشتاق لزمن الحمير. (ص40). 2. ذكريات أحمد محمد علي ط1/1397 خصص صاحب الذكريات لموضوع الحج مقالة بعنوان (من ذكريات الحج) من ثماني صفحات رصدت بعض الصور في عهد الدولة العثمانية (ص30–38). تناولت الأفكار التالية: عدم التقييد على الحجاج، حيث يتمتع الحاج بحرية التصرف؛ يأتي متى يشاء ويغادر متى يشاء، يحمل معه من الأرزاق ما يشاء وما يتيسر له، ويحمل إلى دياره ما يريد (فلا تقييد في الوقت، ولا تحديد في الخروج، ولا تدقيق في الدخول…). سفر الحجاج من بلادهم كان في غاية السهولة، مستدلًا بأداء والده الحج من غير عزم ولا تخطيط. حجاج البحر كانت تقف بهم المراكب في عرض البحر، ثم تستقبلهم زوارق شراعية تنقلهم إلى جدة، لكل حاج مطوف ينقله إلى مقر إقامته في مكة. أكبر مشكلة كانت تواجه الحجاج هي شح المياه النقية العذبة في جدة، وبعد أن أصبحت جدة تحت إدارة الملك المؤسس أزال المشكلة وجعل المياه المقطرة العذبة صدقة جارية للجميع. بعد رحلة البحر يتوجه الحجاج إلى مكة على الإبل حيث تقطع المسافة في ليلتين ويوم. دور المطوف مسؤول عن إقامة الحاج، يؤمن المسكن والمواصلات، ولم تكن الفنادق معروفة بعد. وكان الفقراء من الهند وبخارى يقيمون في الرباط، مما يسبب ازدحامًا شديدًا، ومع ذلك لا يوجد اعتراض أو تفكير في ضيق الأمكنة، وكانت إقامتهم الحقيقية في الحرم أو الشوارع. المشفى والمرض: لا يعترف الحاج بالطبيب أو المشفى، وكانت من الأعمال المكروهة، يعتمد على وصفة خاصة من زميل أو المطوف. المناسك وأماكن الزيارة: كان الحاج لا يقتصر على المناسك الرئيسة، بل يقوم بزيارة عدة أماكن مثل المساجد والقبور وأعمدة خاصة في المسجد الحرام. تعدد المذاهب في الحرم المكي في تلك المرحلة، تظهر فوارق الجماعات وقت الأذان والصلاة (الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي)، كل جماعة تصلي خلف إمام مذهبها مثل البخاري والأفغاني في المقام الشافعي وهكذا. عرفت أماكن وأوقات عديدة محددة للدعاء خلف المقام عند الحجر الأسود. وصف الصعود إلى عرفات، حيث تزدحم كل الأماكن (بالشقادف)، وتتكدس تلك الأماكن: ((القاذورات والأوساخ ولا ينظر إليها الناس إلا كنظرهم إلى أشياء مألوفة، فالأوساخ وتراكم القمائم في أيام الحج كان أمرًا عاديًا غير منتقد من الأهالي والحجاج)) (ص33). وحين نقرأ رحلة جيل جرافيه (رحلتي إلى مكة 1894م) نجد تفاصيل دقيقة عن الظروف الصحية في منى، عكس الصورة التي عرضها صاحب الذكريات، إذ يقول جيل: ((…عدم وجود أي تراكم للعظام أو القاذورات التي تختفي بظاهرة محو الطبيعة…)) (ص25). كذلك يعرض صاحب الذكريات أهمية ما يعرف بـ(الشقادف) في الحج، وهو حجرة صغيرة يعدها النجار قبل الموسم بداية ذي الحجة، ولا يتعامل النجار صاحب الشقدف مع منسق الحجاج إلا بخطاب (عريضة) من مشايخ الحملات، كما هو الإجراء في نقابة السيارات في الوقت الحاضر. يوضع (الشقدف) فوق الجمل لتحمي الحاج من العوامل الجوية لمن يرغب في الراحة. يتبع ذلك ما يسمى (شيخ المخرجين) في تلك المرحلة، يقابله حاليًا مكتب نقابة السيارات، مهمته توزيع الجمال وتنظيمها ومتابعة طلبات الحكومات وضيوف الرحمن. أكثر المطوفين لهم عملاء من أصحاب الإبل يتفقون معهم لنقل الحجاج في المناسك. حركة انتقال الحجاج إلى منى وعرفة ومزدلفة يبدأها حجاج الجاوة الذين يتجهون إلى عرفة في اليوم الخامس، بينما الأجناس الأخرى تنتقل يوم التروية (الثامن). في هذا اليوم تزدحم مكة بالإبل والأمتعة والشقادف، ويحدث بعض المشاكل بين أصحاب القوافل، كل قافلة تنتظم في سيرها في سلسلة، وحين يحاول بعض الجمالة قطع السلسلة تحدث الفتن والعنف بين أرباب القوافل. كما رصد الذكريات ممارسات لم يبق لها أثر الآن، مثل إطلاق العيارات النارية بعد مغادرة عرفات والإفاضة من قبل الحجاج، خاصة البدو، مما يحدث بسببها حوادث تصيب الحجاج. الألعاب النارية (الشنك) كانت تسمى الشنك وهو احتفال بالألعاب النارية أمام مخيم الشريف، يحضره جنود المحمل المصري والمحمل الشامي، كما تحضر الموسيقى، ويبالغون في الاحتفالات بالألعاب، وتتم مراسم الاستقبال بين الوالي التركي وشريف مكة قائد الحج ورئيس المحمل. يحاول صاحب الذكريات التوقف عند صورة الأمن في المشاعر، تحديدا ليلة مزدلفة وليالي التشريق، إذ لاحظ انتشار حوادث السرقة والنشل، وقد شهد والد صاحب الذكريات مثل هذه الحوادث. ويثمن المؤلف جهود العهد السعودي لتحقيق الأمن والأمان وزوال الأخطار عن الحجاج. وللرحالة الفرنسي جيل جرافيه (في رحلتي إلى مكة 1894) موقف آخر حيث رصد تخالف ما ذكره أحمد محمد علي فيما يتعلق بمسألة الأمن في المشاعر، فيذكر أنه جاب الأزقة والبازارات في مناسك الحج في أمان تام: ((الأبواب لا تقفل، والبضائع تترك وحدها، عرضة لكل مارٍّ ليل نهار، ولا توجد شرطة، أما السرقة والجريمة فهما غير معروفتين هناك)) (ص24). بعد انتهاء موسم الحج يغادر الحجاج إلى ديارهم، ويبقى متخلفون وهم من يرغب الإقامة في بلاد الحرمين لطلب العلم أو الفقراء الذين لا يجدون تذكرة الرجعة أو كبار السن، بعضهم يبقى في الحرم يحلم بأن ينال شرف الوفاة والدفن في المعلاة أو البقيع، أما قضية العيش أو تأمين وسيلة الرزق فلم تكن ذات أهمية عند المتخلف. كذلك من ذكريات (أحمد محمد علي) واقع الإضاءة في الحرم المكي ليلاً، حيث كانت الشموع المحمولة على المصابيح هي الوسيلة الوحيدة للإضاءة، وكانت نادرة، ولتجنب النقص يكلف طلاب العلم بحملها أو تبقى عند باب الوداع عند رجل يحفظها. (ذكريات أحمد علي، ص18). 3. ذكريات طفل وديع / عبد العزيز الربيع، ط1 (1397هـ) لم ترد أي إشارة من ذكريات الكاتب عن وجود الحجاج أو حج أحد أسرته، وكان هاجسه أن يسرد ذكرياته في الحرم النبوي، ويلاحظ القارئ تعلقه بالحرم الشريف، حيث يظهر ذلك في ذكر الحرم النبوي في بداية عدد من مقالاته، مثل المقال الأول بعنوان: (بين البيت .. والحرم .. والمدرسة). وأشار إلى تفرد الحرم الشريف بوجود الكهرباء، كما فعل أحمد محمد علي المذكور سابقًا، فقال: “ومما يذكر أن الحرم النبوي الشريف كان هو المكان الوحيد الذي يضاء بالكهرباء وهذه ميزة تضاف إلى ميزاته…” (ص 30) برغم صلته العميقة بالحرم، لم يشِر إلى وجود الحجاج أو حركتهم. 4. الجبل الذي صار سهلاً / أحمد قنديل، ط1 (1400هـ) في رحلة الحج من جدة إلى مكة يلاحظ إهمال صاحب الذكريات للمحددات الزمنية للمواقف والأحداث، ربما لأنه اختار فن الذكريات الذي يقوم على إغفال التحديد الزمني. وعند سرد ذكرياته عن أداء الحج مع والده، يذكر أحيانًا “في عام ما” أو “ذلك العام” أو “في يوم”، مثل قوله: “فقد سمعت في ذلك العام الذي أديت فيه فرضية الحج…” (ص 40). المواصلات كانت تعتمد على الدواب، وهي “الرويكب” أي الحمار أو الجحش (وهي نكرات من الحمير الريفية)، ويستخدم أصحابها نداء “يا رويكب” كنوع من التحبب لجذب الحجاج، كما يفسر الكاتب (الدحلسة) لجلب أكبر عدد من الحجاج. ويروي الكاتب مواقف طريفة مع أصحاب الرويكب، مثل اختفاء الحمار في الزحام إذا سقط الراكب، وظهوره في وقت الاستراحة لشرب الشاي أو الطعام. وأنه كانت لهم طريقة للتودد، مثل مخاطبة الحاج بـ “يا حاج” أو “يا شيخ” أو “يا عمي”، حتى يحصلوا على زيادة غير متفق عليها. ويصف الكاتب الحمار العادي بأنه “بالحمير البلدية بالفارهة الأجساد والوسيمة المنظر”. ويستعرض مواقف مع الجمال التي كانت مسؤولة عن حمل الأمتعة الثقيلة (الشقادف والشباري والهوادج). كما يذكر عادة إرسال رسالة إلى أهل الحاج بعد الوصول إلى مكة لطمأنتهم. ويروي تفاصيل عن رحلة الحج، واستخدام “الرويكب” للصعود إلى عرفات، ويسترسل في وصف أصحاب الرويكب وطريقتهم. ويختصر تفاصيل أداء المناسك لكنه يطيل في وصف المواقف مع الدواب والناس، مع كثير من السخرية والتهكم. ويروي قنديل رحلة صعود الجبل الحلم، بعد إلحاح على والده، وصعودهم في صباح اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، مع ذكر سوق العرب في منى ووصفه بأنه من أشهر أسواق الحجاج، ويقارن بين سوق العرب وعكاظ من حيث الأصناف المعروضة. ويركز أحمد قنديل على حكايات المواصلات والدواب في استمتاع ودهشة، مقارنة بتعب وحزن حسن نصيف. 5. بين السجن والمنفى / أحمد عبد الغفور عطار، ط1 (1401هـ) لم يخصص صاحب المذكرات مساحة محددة للحج، لكنه ذكر الحج والعمرة في ثلاثة مواضع ضمن سرد ذاته: المرة الأولى في طريقه إلى سجن الرياض في زمن برد قارس، حيث نزلوا في أرض “العشيرة” شمال الطائف على بعد 75 كم، وهي استراحة اعتيادية للملك عبد العزيز وموكبه في طريق الحج (ص 158-159). والمرة الثانية عام 1356هـ حين قضى عيد الأضحى في سجن المصمك، وكان الملك عبد العزيز في الحجاز ليقود حجاج بيت الله الحرام (ص 255). اما المرة الثالثة فعندما أدى مناسك العمرة بعد إطلاق سراحه، ووصف كيف صحا قبل الفجر وتوضأ ومضى إلى بيت الله الحرام، وأخذ يدعو الله بخشوع (ص 295). 6. حياتي مع الجوع والحب والحرب / عزيز ضياء، ط1 (1414هـ) سجل عزيز ضياء إشارات عابرة ليست في سياق أداء فريضة الحج، بل في سياق وصف رحلة من المدينة إلى جدة. وأنهم سافروا على الجمال، وحين وصلت رحلتهم إلى رابغ نفقت الإبل، فتم تعويض أهل الإبل بإعطائهم الأمتعة. وأشار إلى أن الجمالة كانوا يبيعون جمالهم على الحجاج. وعند وصولهم إلى جدة، رأوا الكثير من العمران وزحام الحجاج الذين انتهوا من حجهم وهم في انتظار البواخر التي ستقلهم إلى بلادهم مثل جاوة أو الهند أو مصر أو سوريا (ص 244). 7. سيرة قافية الحياة / عبدالله بن إدريس، ط1 (1434هـ) سجل الحج في حوالي سبع صفحات تحت عنوان “حجتي الأولى”، وحكى رحلة الحج الأولى التي بدأت في “الرباط”، وهو مقر خيري خاص بطلبة العلم من مختلف أنحاء العالم. ووصف علاقة الأسر الكبيرة بالطلاب المكفوفين الذين كانوا مرشدين للحجاج، وذكر أن الحج كان على نفقة “حصة بنت عبد العزيز” عام 1368هـ، واصفًا تحضير خزانة الملابس. المؤلف وصف الرحلة من الرياض، وقيادة الملك المؤسس لرحلة الحج، وموكبه والأمراء والأميرات، واستراحة الموكب في “عشيرة”، وذكر جوانب من العلاقة بين المشتركين في المأكل والمشرب. واتفق مع مذكرات العطار في وصف موكب الملك والاستراحة في “عشيرة”. ويرصد الميقات الذي كان مكشوفًا في ذلك الزمن، وصعوبة وجود ما يستر المحرم عند لبس الإحرام. ووصف ابن ادريس دخول مكة من باب السلام، ولقاءه الأول مع الكعبة، حيث شعر بقشعريرة بين رهبة وخشوع. وقارن بين كثافة الطائفين آنذاك والوقت الحاضر، وذكر أن المسعى كان شارعًا عاديًا يعج بالدكاكين، وأن الصفا والمروة كما هما. كماعلق على طرق أداء بعض المطوفين مع الحجاج، وانتقد التقليل في أداء الطواف على الجبلين حالياً. ووصف خيام الحجاج في منى وعرفات، والفرق بينها وبين الحاضر، حيث المباني الفخمة والخيام الفاخرة. راويا صعوبة رمي الجمار قديمًا وحديثًا، خاصة بسبب الإشكالات التي كان يسببها الحجاج الأفارقة. 8. المهمل من ذكريات طالب تنبل / أحمد العرفج، ط1 (1437هـ) ورد ذكر الحج بصورة مغايرة وبعيدة عن أداء الفريضة، حيث مارس الطفل أحمد البيع والشراء في موسم الحج بالمدينة. كان في الصف السادس وبدأ عمله في موسم الحج ببيع الشاي والقهوة للحجاج في الحي، وعمل مع أحد أقاربه في الموسم للحصول على آلاف الريالات (ص 33). 9. في سيرة مشيناها / عبدالرحمن الشبيلي، ط1 (1440هـ) دون الشبيلي، بصفته مسؤولًا إعلاميًا، مرحلة تطور التلفاز السعودي وجهود الدولة في نقل مناسك الحج. وذكر أن التلفاز لم يكن ينقل الحج مباشرة حتى عام 1390هـ (1970م)، ثم أقيمت محطات للمايكروويف على جبلين بين مكة والمشاعر المقدسة. ويروي موقفًا عن المهندس الفني السعودي في نقل الصورة من عرفات إلى جدة عبر منى ومكة، وسعادة وزير الإعلام بنجاح العمل، واهتمام الملك فيصل بالمتابعة (ص 183-185). 10. حياتي بين المستشفيات / عبد الرحمن المطرفي، ط1 (1441هـ) تحدث المؤلف عن أداء والدته العمرة بعد خروجها من المستشفى للنقاهة، وذكر المواصلات في رحلة من الطائف إلى مكة. ويروي كيف تعرض لمشكلة في الطواف بسبب ضعف أمه وكونها على كرسي متحرك، فطلب منه الأمن ضرورة الاستعانة بمطوف لحمل والدته، وبذل عدة محاولات حتى سمح له الطواف بالكرسي المتحرك (ص 47-48). 11- فصول من سيرهم بأقلامهم سيرة الحج / بقلم نادية خوندنة من آخر الأعمال السيرية التي قدمها عدد من المثقفين في موضوعات متفرقة، تحكي (نادية خوندنة) تجربتها الشخصية مع الحجاج الإيرانيين: تقول كنا نستمتع “بمعايشة أكبر تجمع للمسلمين من جميع أقطار المعمورة .. حيث كانت العادة أن يسكن الحجاج في بيوت المكيين بعد استئجارها .. من قبل المطوفين السعوديين وهي مهنة عريقة تشرف بها المكيون امتدادًا لإرث السقاية والرفادة .. كان ينزل في بيتنا في حي الفلق .. الحجاج الإيرانيون (العجم) .. فكانت السلطات الإيرانية تسمح لحجاجها بإحضار ما يشاؤون من مواد استهلاكية لبيعها في مكة .. مثل الأرز .. ذي الرائحة والنكهة الفريدة، الزعفران، الفستق، البرقوق المجفف، سلع عينية مثل السجاد … الخلاصة: سير بدون تفاصيل لم أجد سيرًا ذاتية لكاتب سعودي تركز بصورة مستفيضة عميقة لغة وسردًا وإبداعًا على سيرة الحج، سواء كتبها أديب أو مفكر، وما وُجد عناوين عابرة، أو فصولًا، أو أجزاءً في سيرهم تتناول تجربتهم الذاتية الخاصة أو ممن حج من أهلهم في مرحلة أداء المناسك، أو من خلال مواقف أخرى. كذلك لم يقدم أصحاب السير التفاصيل المأمولة عن الأمكنة (أماكن ميقات الإحرام، الحرم، منى، مزدلفة، مسجد الخيف، الأحياء وأماكن مسيرة الحجيج، والظروف والأحوال في كل تجربة، الموت، الحياة، الحالة الصحية في منى التي تبعد عن الحرم نحو سبعة كيلو مترات، ذبح آلاف الأضاحي، النظافة، مياه الشرب، تعامل الحجاج، سلوكياتهم مع بعض، زمزم، صورة ضع المخلفات والقاذورات، الحراك الثقافي، الاجتماعي، الاقتصادي… إلخ). أيضا فإن ما يدونه أصحاب السير ليست مجرد سرد حكاية واقع الحج في مراحل متفاوتة، بل شهادة حيّة على تطور عظيم، يضع خدمة ضيوف الرحمن في مصاف الأولويات، وأن ما كان بالأمس مشقة، أصبح اليوم نعمة.. ويبقى الحج مهما تغيّرت ملامحه، ومهما دون عنه يبقى بحاجة إلى سرد الجديد بأقلام أصحاب سير قادمون يكونون أكثر جرأة، أكثر شجاعة وتمكنا من رصد سيرة الحج الفريدة، الرحلة الإيمانية التي لا تنسى. لاحظت في السير النماذج ضعف اهتمام أصحاب السير بوصف كل ما تقع عليه العين في الأماكن المقدسة بصورة المشهد الحي، مثل وصف لقطات إنسانية يلتقطها البصر في كل ثانية أو جهود العاملين والكائنات في الحرم، الأمر الذي يثير اهتمام المتلقي وانتباهه، كما فعل المازني في كتابه (رحلة حجازية 1930)، حيث يتناول تفاصيل الحياة في مكة، ويعكس انطباعاته عن الأجواء الروحانية التي تميز المكان، بما في ذلك الطيور التي تحلق بحرية بين زوار الحرم، في مشهد يعكس الطمأنينة والسكينة التي يشعر بها الحجاج والمعتمرون. اهتمام الملك عبدالعزيز بقوافل الحجيج ومن جميل ما دون عن الحج ما ورد في رحلة الأمير شكيب أرسلان (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف 1931)، تصويره الحي لخوف الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - على قوافل الحجيج فيقول: (كان الملك أيده الله من شدة أشفاقه على الحاج وعلى الرعية لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ولا يفتأ سائق سيارته كلما ساقها بعجلة قائلاً له: تريد أن تذبح الناس، وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته (شقدفاً) أو تؤذي جملاً أو جمالاً، وهكذا شأن الراعي البر الرؤوف برعيته الذي وجدناه معمورًا بمعرفة واجباته). ومما كتبه محمد حسين هيكل (في منزل الوحي) عند رؤية الكعبة: “تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفًا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة”. هذا المشهد الحي لم يتضح في سيرة الأدباء وهو من ضرورات الحالة السيرية، المفترض يحضر مثل هذا المشهد في ذاكرة صاحب مذكرات (بين السجن والمنفى) حين اتجه إلى الكعبة بعد تحرره من السجن… لكن مقصّر في بسط مشاعره أمام الكعبة وهو يطوف بعد تحرره من السجن، كل الظروف مهيأة لأن يخلص في صياغة الذات في حالة الخشوع بصورة لا مثيل لها لابن الحرمين. من المشاهد الملفتة ما دونه الحاج الهندي في رحلته إلى الحرمين محمد بن عبدالسلام الدرعي 1239هـ، سجل بعض سلوكيات الحجاج غير الجيّد، كالازدحام والفوضى، كما سجل موقفًا يتعلق بركوب الحمير الذي يعتبر في الهند مذلّة، إلا أن الأمر وجدوه في الحجاز يختلف، فأكثر الدواب استعمالًا الحمير، وهي أقل أجرة من الجمال، وقد تغير رأيه مع رفاقه الذين كانوا معه في استعمال الحمار لاستكمال أداء فريضة الحج، حيث كان استعمالها للتوجه إلى منى، ويصفه بالمنظر الرائع، لأنه لم يسبق لأحدهم أن خاض تجربة ركوب الحمار. لم يوظف أصحاب السير المكان واكسابه صفة قدسية تربطه بالتاريخ الإسلامي وبأحداث السيرة النبوية، جماليات المكان التاريخي تحتاج وقوف الكتاب على مساحات وزوايا عديدة في موضوع الحج مثل مقابر الصحابة في (البقيع)، مقبرة شهداء (أحد) التي تمثل تاريخ الصحابة الكرام في الفداء والتضحية والوقوف على جبل النور، وهذه الأماكن – كما سجل أحمد محمد علي في ذكرياته – جزء من رحلة الحج التي كان يحرص عليها كل حاج قادم من أصقاع الأرض إنها أماكن تفيض بروحانية خاصة. تقصير المثقفين والمفكرين ويبقى تقصير المثقفين والمفكرين في بلاد الحرمين واضحًا، إذ يلاحظ انصرافهم عن هذا الحقل الإيماني الروحي الحضاري والمعرفي الواسع الواعد، كيف ضاقت أقلامهم وقرائحهم عن الاهتمام به إنْ على مستوى الإبداع شعرًا ونثرًا أو على مستوى الدراسات تحليلاً وفحصًا؟ وليس لي إلا أن أردد هنا ما قاله (إبراهيم الفلالي) قبل سبعين عامًا في مجلة المنهل إذ يقول: “في زحمة الحج أدب تمتلئ به الدفاتر، وتكتظ به الصحف، ويستهوي النفوس بحلاوته، ويختلب العقول بطلاوته، لو كان لدينا من يكتبه ويعنى به، ولكن تلك الزحمة التي تختلف إلينا كل عام تصرفنا عن هذا الأدب القيم الممتع، فنفتقد بذلك ثروة أدبية نحن في أمس الحاجة إليها.” *قاصة وباحثة في الأدب والنقد.