علاء مجيد* .. المايسترو الذي لا يحرك يديه عبثاً .

في أحضان مدينة العمارة، حيث تتلاقى مياه دجلة والفرات في رقصة أزلية، ولد علاء مجيد عام 1960، كأن السماء قد أرسلت معه لحنًا من تراث سومر القديمة. لم يكن طفلًا عاديًا؛ كان يستمع إلى همس الرياح بين نخيل ميسان، ويترجم نبض الأرض إلى إيقاعات خفية تتسلل إلى أحلامه. طفل يجلس على ضفاف النهر، يمسك بعود خشبي بدلًا من عصا صيد، يخفق به كما لو كان يقود فرقة من الأرواح الموسيقية. هكذا بدأت رحلة المايسترو علاء مجيد، الرجل الذي حوّل التراث العراقي إلى سيمفونية حية، تتردد صداها في قاعات العالم. لم يكن علاء مجيد مجرد موسيقي؛ كان مهندسًا للذاكرة الجماعية. في السبعينيات، انتقل إلى بغداد، مدينة الألف مئذنة والألف لحن، حيث درس في معهد الدراسات الموسيقية، يغوص في بحور المقامات العربية كغواص يبحث عن لآلئ في أعماق البحر الأسود. هناك، تعلم كيف يمزج بين الناي الذي يبكي على سقوط بابل، والعود الذي يغني لعودة السلام. سرعان ما أصبح اسمُه يتردد في الدوائر الفنية، ليس كلاعب أداة واحدة، بل كمايسترو يقود الفرق بيدٍ من حديد وروح من حرير. تخيل يديه: اليمنى ترسم خطوط الإيقاع في الهواء، واليسرى تلامس خيوط الوتر كأنها خيوط قدر. مع الوقت، أصبح علاء مجيد عميد أكاديمية الموسيقى العربية في لندن، حيث يعيش الآن كجسر بين الشرق والغرب. ليس هذا مجرد لقب؛ إنه تتويج لجهدٍ دام عقودًا في حفظ التراث. فهو رئيس الفرقة الوطنية للتراث الموسيقي العراقي، ومشرف فرقة سومريات الموسيقية، تلك الفرقة التي تحيي أرواح الآباء من خلال ألحانها. في حفل افتتاح احتفالية “بغداد عاصمة السياحة العربية” هناك، وقف علاء على المنصة، يقود فرقته كقائد سفينة في عاصفة، يمزج بين مقام البياتي والريتمات الحديثة، فتتحول القاعة إلى حديقة معلقة موسيقية، حيث ينبت كل نغم زهرة من الذكريات. ما يجعل علاء مجيد استثنائيًا ليس فقط إنجازاته – وهي كثيرة، من تسجيل ألبومات مثل “Iraqi Cafe” التي تُباع في أرجاء العالم، إلى تسمية الدورة الـ43 لخريجي معهد الدراسات الموسيقية باسمه – بل هو الشغف الذي يحرّك يديه. في عالم يغرق في صخب الإلكترونيات والإيقاعات الاصطناعية، يعود علاء بنا إلى الجذور. يقول دائمًا: “الموسيقى ليست مجرد صوت؛ هي نبض الأمة”. وفي قناته على يوتيوب، حيث يتجاوز المليون مشاهدة، يشارك معنا دروسًا في العزف، وحفلات حية، كأنه يدعونا إلى جلسة في مقهى بغدادي قديم، حيث يُقدَّم الشاي مع قصة من التراث. ‏ساهم المايسترو علاء مجيد في دعم الأسماء الشابة والمميزة مثل الفنان حسين جبار والفنان ضامن ياس خضر وأحمد الحيالي والموهوب كرار نوري، حيث حرص علاء مجيد على دعمه والقيام ‏بتدريباته الأولية بنفسه. يظل علاء مجيد رمزًا للصمود الفني. هو ليس فقط مايسترو؛ هو حارس النغمات، الذي يجعلنا نرقص على إيقاع التاريخ، ونحلم بلغة المستقبل، وفي كل مرة يرفع فيها عصاه، ينهض بتراث الأغنية العراقية العتيقة عاليًا. * المشرف الفني على الفرقة الوطنية للتراث الموسيقي العراقي.