مِحرابُ العُزلـَـة.

إلى والِدي – رحمه الله - الذي غاب قبل ثلاثة عقود وما زال حاضرًا في كل سجدة حُب. وفجأةً يغيب.. القمرُ الذي كانَ يَحني ضَوءَهُ أمام صغارهِ دخل أسوارَ المدينة المـُوحِشةْ ينطفئُ وهو في ذروةِ اكتمالِهْ السماءُ تتأوَّهْ صَرختِ الأُمُّ في وجهِ طفلِها الأكبرْ يا بُنيَّ تماسَكْ لم يعُدْ هناكَ مُتسَعٌ للكِتابةِ على الجدرانْ شارِعُ الحارةِ مُكتظٌّ بعباءاتٍ سوداءَ مُتجهةٍ إلى مَنزِلنا القاتِمْ كلُّ شيءٍ خرجَ عنِ النصِّ حتى العناوين .. لا ندري ماذا يُخبِّئهُ القدَرُ الذين يتفوهون بـ(لا) صاروا يتفوهون بـ(نعم) الصغيرُ فينا لا يزالُ يرضعُ من ثَدي القداسةِ المـُتخمِ بالحنينْ يشتعلُ الحزنُ في دمِ القريةِ التي كادتْ تغرقُ في الدمعْ البُكاءُ ينخرُ الرمالَ التي لم تكتملْ نشوتُها بعد.. كانتْ ملاذًا للقمرِ في كلِّ رحلةِ صيدْ ما نفكِّرُ فيهِ أصبح يتدلَّى على ريحٍ مرتبِكَةٍ يَثقُبُها اليُتْم.. هكذا المنظرُ يبدو.. ستغيبُ زُجاجاتُ الحليبِ عن أفواهِ المارَّةْ وفجأةً يغيب.. القمرُ الذي غادرَ المكانَ لا يُشبِهُهُ أحدْ.. إنهُ الإطار الفضّيُّ في زمنٍ هوامِشُهُ متخثِّرةٌ تحتَ خطِّ الاستواءْ لم يعُد ثَمةَ مَجازٌ يحملُ الكَلِماتْ ميناءُ القَصيدةِ واهٍ لمْ تَعُدْ صلاةٌ بنكهةِ الخُشوعْ مُنذُ أنْ جَلَسنَا على الحوافّْ وإحدى ضفَّتَي النَّهرِ على قائمةِ الانتظارْ ليس بيننا وبين القمرِ الـمُسجَّى سِوى جرَّتينْ لكنهما فارغتان كان القمرُ يحملُهما إذا أرادَ أن يُضيءَ أكثر.. الموسيقى صارتْ مُجردَ جَرسْ وفيروزُ أصبحتْ دُميةً في الصباحْ وفجأةً يغيب.. رُوحُ أمِّي عَالِقةٌ في فضاءٍ مَراياهُ تعكِسُ نجومًا باهتةْ هي آخرُ مَنْ رأتِ القمرَ وهو يضحَكْ وآخِرُ مَنْ عانَقتْ ضوءَهُ الماطِرْ لكنَّها أوَّلُ مَنِ استبدَّ بها الظلامْ كانت تتهادى بين اثنتَينِ وهي عاصبةٌ شُرفةَ رأسِها ترفضُ الانكسارْ ملامِحُها مُبتلَّةٌ بالبياضِ.. لا ماءَ في الماءْ ولا هواءَ في الهواءْ بطيئةٌ تلك الليلةُ التي غابَ عنها القمرْ باتتْ أُمِّي توزِّعُ الحزنَ على الحاضرينْ لمْ تنمْ حتى الآن.. السُّفرةُ مليئةٌ بالتفاصيلْ وفجأةً يغيب.. جرَّبتْ جَدَّتي أن تَمنحَ السماءَ قمرًا آخرَ لكنها لم تُفلحْ فالأقمارُ المحروسةُ لا تتكرَّرْ في كل كرَّةٍ تعودُ والخيبةُ تجترحُ سريرتَها الطاهرةْ كان يكفي أنْ تكتُبَ للشمسِ مَرثيتَها الأخيرةْ وأنْ تنصِبَ خيمتَها خلفَ الأهلَّةِ الغائرةِ كي تستريحْ جَدتي ذاتَ الوجهِ القُمحيِّ كانتْ مؤمنةً أنَّ مِحرابَ العُزلةِ سيُخلِّصُها منَ ضَلالِها القديمْ عاشتْ بعده تتقمَّصُ الحِدادْ تُصلي حيثُ اتجاهُ الشبابيكِ التي سقطت في الزحامْ ظلَّ البَخورُ مكسورًا بغيرِ عُنفوانْ يَدُها لم تتلذّذْ بالحنَّاءْ ولم تكن ترتدي غيرَ هُويَّةِ الموتى كم ظلَّت تُلوِّحُ بعُكَّازِها.. كلُّ شيءٍ أصبحَ في البرزخِ إلا قوسَ قُزحْ وبعد عِشرينَ خريفًا.. سقطتْ وهي تحيكُ للقمرِ خيوطَهُ البيضاءْ * جامعة نجران