في «عليشة » ما يستحق الحب.
دمدم بصرخة مدوية سرت عبر ممرات المشفى الطبي لتعود إليه دون أن تحمل معها طابع الصدى أو تبدل واقع السرير الأبيض والستائر المدلاة وروائح المطهرات الطبية التي ألفها مُكرها: أريد أن أزور «عليشة». قبل ما ينيف على أربعة أعوام لم يكن الممارس الصحي «خالد» الذي قدم للعمل في كبرى مشافي الرياض، يعرف ما «عليشة» حتى استثاره الفضول بعد استلامه حالة العم ناصر مستدرجا أحد أبناءه ليعلم أن هذا الوجد المضني ولوعة الشوق التي استعصت على عبث الذاكرة غير الممنهج في عدوانها على عقود سنون تصرمت من ماضي العم ناصر، ليست مما يسلب ألباب الرجال غالبا. وبالرغم من المسح الجائر والهدم العبثي لنخاريب ذاكرته، بقيت جدران «عليشة» مشمخرة، وطلعتها الشهيرة منتصبة في مخيلته. بقيت «عليشة» طرية في ذاكرته بنكهة أشجار السدر والأثل المتهدلة فوق الأبواب بحنو يخبر أن للأمكنة والبيوت أرواحها العالقة بين أزقتها والمتعرشة في بلكوناتها وأقواسها المنتصبة بين الأساطين الحجرية. يصمد هذا الحي في وداعة مريبة تحت وطأة تمدد الرياض التي تقذف به بعيدا في هجرتها إلى الشمال. هكذا عرف خالد «عليشة» التي سكنها هذا المسن المستسلم لذاكرته المخاتلة وهو يتساءل متأملا معصمه: -من ناصر، ولماذا الرقم (94) ؟! ثم ينحي الطعام بحزن، وهو يقول لخالد: لقد أخبرتهم قبل أن تحضر لن آكل إلا في عليشة، في بيتي -هل تستطيع تحديد موقع البيت؟ -نعم. هذا المفتاح في جيبي. لم يكد خالد يهمهم بأن المفتاح إن وجد فسيكون قد جاوز عمره نصف قرن من الزمن، حتى دوت حشرجة تشي بتهشم شيء غريب داخل صدر العم ناصر، وهو يقول: -أمس ..أمس كنت في البيت. ثم ساد صمت موحش ضبب أردية المشفى بألوان رمادية، ليكتمل المشهد بدمعة وحيدة أفلتت عن عينه اليمنى المحررة من لاصقات الوقاية الطبية. رفع رأسه كالمستجدي هذه المرة: يا ولدي أنت أحن منهم، لست مثلهم، خذني يا ولدي إلى «عليشة» أجابه خالد، الممارس الصحي حديث العهد بهذه المهنة بنفس لم تتبلد بعد بكثرة المساس: لا تقلق يا عم، ولكن أخبرني عن هذا البيت ..؟ -عن ماذا أخبرك ..أكيد تعرف بقالتي القديمة في الأعلى هناك، في حي «القرينين». متبسما: الكل يعرفها. وكنت أسكن في غرفة خلفها بعد أن أزمعت ترك «الديرة» ومسقط الرأس. وكان المرحوم أبو سعد أحد زبائني الأوفياء أحاطني بعطفه ورعايته كونه من أهل الرياض الأصلاء، أما أم سعد فالله يمسخني سريرا إن كانت قد نسيتْ يوما ارسال طعامي، أكان ذلك فطورا أم غداء ..لقد كانت كريمة نفس تلك المرأة احدى الأيام، عصرا أرسل أبو سعد «نورة» الصغيرة حينها، برسالة مفادها «غدا بعد الفجر قبل أن تذهب لجلب بضاعة البقالة أريدك فاحضر باكرا» حضرت فأخبرني بأراضي «المنفوحة» وقال بأنه أشترى هناك، ولابد أن أشتري مثله، فالرياض تبسط كفيها لخير وفير، والعقار مهنة المتفتحين، لن تكون الرياض بعد الآن مثلما كانت سابقا، سيما وقد أنار ليلها الشيوخ بالكهرباء. ولو أن تلك المبالغ كانت زهيدة فلم تكن مدخراتي لتفتح لي باب هذا التحول، بيد أنه أصر، فأرسلت خطا لأخي الله يرحمه، وهو في مقام أبي كفلني بعد وفاة والدنا. بعد أيام كان أحد أبناء قريتي يحمل البشرى على دراجة تتهادى به بين حارات الرياض حتى وقف أمام البقالة ليترجل عن دراجته ويخرج المكتوب من الصندوق الخشبي المثبت على العجلتين الأماميتين وهو ينادي «ياناصر أخوك ذكرك ..أخوك ذكرك» خرجت أردد وأنا أتناول المكتوب بلهفة «الله يذكره بالخير»، آه يا بني كأن الورقة الآن بيدي. مساكين أنتم الآن لا تعرفون رائحة رسائل الأهل.. -لها رائحة ؟! -نعم -شد على الميم بقوة فافترشت لحيته البيضاء صدره – لها رائحة اليد التي كتبتها، والأنفاس التي أملتها وشيء من نكهة زيت السراج -عدا الرائحة، هل تذكر بعضها؟ -الله الله، أذكرها كما أذكر وجه «نورة» وهي صغيرة، بل كما أحفظ شيء من قصار السور. أومأ إليه خالد أن تابع. -كتب أخي: «السلام عليكم نحن في عافية وخير على ما تحب، لا تبطي علينا بالكتب والرحمة هذه السنة أبطت عنا الله يسامحنا ذنوبنا واجد غرسك نترقبه العام المقبل، وبالنسبة لبيع النخل أخبرك أني استشرت بعد خطك المطوع ابن مفلح وقال من يبيع نخل أهله ويشتري التراب في الرياض؟! وخذ مني، أخوك لا يتعدى اثنتين إما أعرس أو مخبول. والمطوع والأهل جميعهم يبلغونك السلام وبلغ السلام من عندك.» -وبعد ؟ -لا شيء. أغناني الله من هذا التراب حتى اشتريت أرض «عليشة» وشيدتها مع «ونورة». حاول العم ناصر أن يعتدل في جلسته مرارا ولكنما فرقعة ذراعيه الهزيلتين حالت دون ذلك فرفع رأسه يصوب عينه تجاه خالد: تعرف «نورة» متعلمة قبل أن يتعلم البنات، واختطت البيت غرفة غرفة حتى الزروع أسفل جدران الفناء من الداخل هي من أشارت على المقاول أن يطيف بها على المنزل. آه والله لا أعلم هل يسقونها إلى الآن، وإلا لن ترسل طيوبها عصرا كالعادة، الدنيا يا بني أخذ وعطاء حتى الزرع. خذني يابني أسقي الزرع وأعدك أن أرجع حتى تضع هذه البلايا في يدي. أشاح خالد بوجهه وهو ينتظر بقايا قطرات هذه الذاكرة. صمت العم ناصر كدفتر يوميات بلغ الصفحة الأخيرة، وهو يلوح بمعصمه أمام عينه يتأمل الرقم (94) أصبحت مفردة «عليشة» تلامس أذن خالد يوميا تحرك في قرارة نفسه شعور بات ينمو عبر الأيام كالبرعم الصغير الذي مدته لسان العم ناصر بالحياة. فبعد أن قرر الذهاب للتسكع هناك حرر الفكرة، ليصبح المشروع الجديد الذهاب رفقة العم ناصر. في هذا القرار لمحة إنسانية تلتمع للوهلة الأولى، ولكنه لم يعول عليها كثيرا إذ كان شابا ترك باب المراهقة مواربا، متلهف للحظة وقوف هذا العم الخرف أمام بيته القديم الذي حزم أمتعته منه فيما يناهز ستة عقود خلت، يا لها من لحظة تستحق المشاهدة. في بيروقراطية سقيمة كان صديقه مسؤول المشفى يجبهه بعبارة ممجوجة: توقيعك هنا يعني اثبات تحملك كامل التبعات المترتبة على ذلك. فيما حيا العم ناصر مساء وهو يهيئه لتحقيق رغبته العتيقة، لدفق الحياة الحار أن يرشح جبين العم ناصر: -متى؟! -سآخذك الليلة حينما أنهي ساعات عملي -لا لن أذهب معك!! -لماذا؟ -لست مغفلا ..نورة لا تقلم الزرع إلا مع شروق الشمس. تنهد خالد: جميل نذهب الصباح، ساعة تحب ؟! -نعم هي تضع جلال الصلاة طي سجادتها عند الشروق. لم يستطع خالد النوم تلك الليلة متوجسا كيف له أن يفسر ذلك الشعور الذي عز عليه يعلق في مشجب الفضول، فلم يتحير على فراشه حتى عنون إضبار تلك المغامرة «التطوع لخدمة المسنين» فجرا أنهى بقية الإجراءات وحرر معصم العم ناصر من الغرز وأنابيب سوائل التغذية الطبية. الأخير كان ممددا إلى جانبه ولأول مرة يرى خالد انفراج شفتي بطل مغامرته بضحكة خبيثة وهو يسمع انتقاء خالد لأغنية «يا هل الشميسي عسى قلبي تحنونه» وفورا عادت له صرامته التي تلائم أعباء ذلك الوقار وهو يصرخ: -ليس من هنا -لا تقلق يا عم أنا متأكد من الطريق -قلت لك لا، لن نصل إلا عبر الشميسي ..خذ طريق مستشفى الشميسي ثم انعطف قبل البوابة ناحية اليمين ..هناك عليشة، هكذا نصل. استغرق تمشيط أرجاء «عليشة» قرابة الساعة والنصف، كل دقيقة منها تكلف العم ناصر صنوفا من الوحشة الممزوجة بالرعب والألم، فيما تبدى لخالد مغبة أعماله التطوعية. فجأة ارتعش العم ناصر وأنسام صباح الرياض تداعب لحيته الشعثاء: -الرصيف، الرصيف والسدرة هذه توقف ..ارجع تحت شجرة السدر الضخمة توقف خالد وأطفأ محرك سيارته ليصمت ضجيج العالم بأكمله عدا أزيز أنفاس ضيفه. -هل في الرياض هذا الهدوء. والتفت إلى العم ناصر: -الشجرة باد أن عروقها تماهت مع الرصيف، ولكن أين البيت ياعم ناصر. زم العم ناصر بقبضته المتجعدة لحيته التي تشبه الورق الأبيض صفاء، فيما تخربش شعرات سوداء نافرة هنا ةهناك، وهو يردد: -أين البيت؟! أين البيت؟! ثم انخرط في نوبة بكاء متسلطة لا تنفك عنه، كان البكاء يتدفق بقوة مراحل عمرية أصغر من شيخوخته بكثير، محال أن يصمد لها. بكى كطفل ضائع مرعوب، لا يقبل الصمت إلا حال احساسه بحرارة حضن أمه الرؤوم. واستمر يردد هذيانه الجاف والحزين: -أين البيت؟! أين البيت؟! قفل خالد إلى المشفى مسرعا بغريزة المسعف، فشرب العم ناصر وبل عينيه جرعة واحدة ورمى عينا محمرة تجاه خالد: -اسمع ..خذ البلكونة المسيّجة بالحديد والتربيعات الزجاجية الخضراء، وأعد البيت!!