د. عبد الله غليس في كتابين جديدين ..

بحوث في البحور والقوافي والزحاف والتصريع .

نظمت جمعية الأدب المهنية بمقرها الرئيس بالرياض في أواخر شهر أغسطس الماضي ورشة بعنوان “موسيقى الشعر أساسيات في الأوزان والتفاعيل”، أقامها الدكتور عبدالله غليس؛ المتخصص في مجال أوزان الشعر وقوافيه. الدكتور عبد الله غليس أستاذ اللغة العربية الكويتي حاصل على الدكتوراة من كلية دار العلوم بجامعة المنيا سنة 2016، أصدر في العام الماضي 2024 الطبعة الثانية من كتابه (المرجع الوافي في الأوزان والقوافي)، وفي العام نفسه كتاب (الأبنية العروضية لمطالع القصيدة العربية). والكتابان كلاهما صادران عن مطبعة الرسالة بالكويت. والحقيقة أن الكتاب الأول كما يدل عليه عنوانه من أوفى المراجع الحديثة في أوزان الشعر العربي؛ بحورِه وقوافيه. والجميل في هذا الكتاب أن كلًّا من المتخصص والمبتدئ يجد فيه بغيته. ففيه المقدمات التي يحتاجها الجديد على هذا العلم، فيأخذ بيده خطوة خطوة من تعريفات يسيرة وشروحات سهلة وأمثلة واضحة كافية، وفي الوقت نفسه يغوص بالمتخصص في أدق التفاصيل والمصطلحات التي تشحذ فكره وتدعوه إلى تأمل ما انطبع في ذهنه سابقا. ولا يقتصر الكتاب على بحور الشعر الفصيح وقوافيه فحسب، بل يشمل النبطي، ويبين العلاقة بينهما. ومن تُتَحْ له فرصة الاطلاع على الكتاب يرَ كيف يربط المؤلف بين النوعين، وما البحور المشتركة بين لوني الشعر الفصيح والنبطي، وما البحور التي اختص بها نوع عن نوع. كما أن الكتاب تناول البحور التي يمكن توليدها من دوائر الخليل، إلا أن العرب أهملوها لعدم استساغتهم إياها، وأورد أمثلة على ما كتب عليها الشعراء القدامى والمعاصرون.. وبالتفصيل والوضوح الذي تناول به المؤلف في الباب الأول البحور الشعرية، تناول في الباب الثاني القوافي؛ أنواعها ولوازمها وأشكالها وعيوبها. ولكي أضرب مثالا على دقة المؤلف في التأليف، فقد تناول التفريق بيت تفعيلتي (مستفعلن) و(مستفع لن) وكذلك فرَّق بين تفعيلتي (فاعلاتن) و(فاع لاتن). والتفريق بين كل تفعيلتين متشابهتين مما سبق، لم تُعِرْهُ كثير من المؤلفات ما يستحقه من عناية، على الرغم من أهميته. وبين الدكتور أن الفروق الدقيقة لا تتبين للشاعر والقارئ إلا حين يلجأ الشاعر للزحافات. فهناك زحافات مقبولة في التفعيلات السابقة جميعها كالخبن (حذف الثاني الساكن). وفي حين تقبل (مستفعلن) - كما في بحور الرجز والبسيط والسريع - الطيَّ (حذف الرابع الساكن) فتصبح (مستعلن) يمتنع ذلك على (مستفع لن) كما في الحفيف والمجتث، لأن رابع التفعيلة وسط الوتد المفروق، والزحافات لا تكون إلا في الأسباب. والحالة المعاكسة تماما، هي قبول الكف (حذف السابع الساكن) من تفعيلة (مستفع لن) في الخفيف والمجتث لأنه ثاني السبب، في حين يمتنع ذلك في (مستفعلن) في بحور مثل الرجز والبسيط والسريع لأن السابع هنا ثالث الوتد المجموع. ومن دقائق المؤلف الكريم، تقسيمه لما يُسمح به للشاعر من الزحافات إلى حسن، وصالح، وقبيح، حتى يعلم الشاعر أن الزحافات ليست سواء، وأنه لا يمكن استعمالها كما يشاء. بل أكد المؤلف إلى أن هناك زحافات واجبة كما في عروض (مفاعيلن) في الطويل ما لم يكن تصريعا. كما أن ضرب المنسرح التام من النوع الأول يجب طيه، فيصبح (مستعلن)، لكنه يمتنع في ضرب النوع الثاني (مستفعل). وإذا انتقلنا إلى كتاب الدكتور غليس الثاني (الأبنية العروضية لمطالع القصيدة العربية) وجدناه كتابا موجها لأساتذة هذا العلم وللشعراء والنقاد المتمكنين من علمي العروض والقافية. ولذلك جاء شديد الإيجاز خاليا من المقدمات التي لا يحتاجها قراء هذا الكتاب. وأهم ما جاء فيه هو التفريق بين التقفية والتصريع، اللذين يكاد لا يفرق بينهما كثير من الذين تناولوا علمي العروض والقوافي، ولا الكتّاب الذين يتناولون مصطلح (التصريع) في عرض كلامهم، وهم قد يقصدون (التقفية). والحقيقة أن سبب الخلط بينهما دقة الفرق بينهما. فالمعروف لدى عامة الشعراء والقراء؛ وحتى النقاد أن التصريع هو تطابق العروض والضرب في الوزن والروي. لكن الفرق الدقيق يكمن في إن كان الشاعر قد غير في عروضه بزيادة أو نقص ليطابق الضرب، أم أن قصيدة الشاعر بنيت على نوع يكون فيه العروض مطابقة للضرب وزنا، فلا يحتاج إلا إلى أن يجعلهما متفقتين في الروي. ولكي نتعرف على الفرق بين التصريع والتقفية علينا أن ننظر للأمثلة التالية التي أوردها د. عبد الله، وكلها من بحر الطويل: الأول قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: أهاجك بالبيداء رسم المنازل نعم قد عفاها كل أسحم هاطل الثاني قول أبي فراس: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر الثالث قول بشار: يعيش بجد عاجز وبليد وكل قريب لا ينال بعيد الأبيات الثلاثة تمثل أشكال بحر الطويل، الذي ليس له إلا عروض واحدة (مفاعلن). لكن له ثلاثة أضرب. في المثال الأول لم يغير الشاعر من عروض البيت لأنها مطابقة لضربه، فكلاهما على وزن (مفاعلن)، وكل ما فعله هو أن وحد القافيتين، وهذه تقفية لا تصريع. في المثال الثاني زاد الشاعر في عروضه إلى أن أصبحت (مفاعيلن) لغاية مقصودة، هي أن تتوافق مع الضرب (مفاعيلن) وفي الوقت نفسه وحد بين القافيتين، وهذا هو التصريع بالزيادة. أما التصريع بالنقص فيمثله البيت الثالث الذي أنقص الشاعر من عروضه حتى أصبحت (مفاعلْ) لتطابق الضرب، ووحد القافيتين أيضا. كما تناول المؤلف نوعين آخرين من قوافي المطالع، وهما الإصمات، وهو أن يتخلى الشاعر عن توحيد الوزن والروي بين العروض والضرب. كقول حافظ: قل للنقيب لقد زرنا فضيلته فذادنا عنه حراس وحجاب أما إن لم يوحد الروي بين العروض والضرب، ووحد تفعيلتهما فهذا ما يعرف بالتجميع ومثاله قول ابن زيدون: بني جهور أحرقتم بجفائكم ضميري فما بال المدائح تعبق وفق الله أديبنا وعالمنا إلى مزيد من البحوث النافعة.