مع عثمان الصيني و(سيرة من رأي)..

حكاية «الطائف» .. التي تقرأ وتغني.

استمتعت بما عشته مع هذا الكتاب الجميل الممتع الذي يطل بنا على فترة زمنية مهمة في تاريخنا الثقافي والعلمي التي عاشها وعايشها أبو حازم في حياته العلمية والعملية. وإن كان لم يتطرق بالتفصيل للأخيرة. استعجلت في قراءة الكتاب لأن أستاذي عبد الرحيم الأحمدي لم يذهب لمعرض الكتاب إلا لفترة محدودة ولمرة واحدة وكان في نيته الحصول على الكتاب، وقد زار الناشر (الانتشار العربي) ورأى الكتاب وخشي أن يرفض أخذ قيمته، وذكر لي ذلك فوعدته بسرعة قراءته لأهديه له، ولعلي في البداية أشكر الأستاذ إياد مدني وزير الثقافة والإعلام الأسبق الذي ألح على الصيني باستكمال ما بدأه من مقالات عن طفولته بالطائف، وشكراً للإجازة المرضية الإجبارية في فبراير 2024 والتي حملته لاستكمال ما بدأه عام 2005م بدأ بوصف الطائف تاريخاً وجغرافياً وحياة اجتماعية وثقافية كما عاشها.. وقد أعطى لسيرة المشهد الثقافي الحيز الأوفى من مكتبات وصحف ومجلات وعلماء وأصحاب مذاهب إسلامية مختلفة، ووصف لمساجدها وأسواقها ومأكولاتها، وعن دوره في فهرسة المخطوطات النادرة في مكتبة مسجد عبد الله بن عباس، واستفادته بتعلم اللغات من الحجاج القادمين من آسيا وهو في دكان والده، وإعجابه بشخصيتين محمد عبد الله الحسين وعبد العزيز الخريف اللذين لا يبخلان بالكتب إهداء وإعارة.  ثم استعرض تحت عناوين: التمازج المذهبي والفكري، والمهرجانات والحفلات، والحياة الشعبية، وأجواء السينما والغناء بصور جميلة تستحق أن تروى ولكن المساحة لا تتسع.  وتحت عنوان: في البدء كنا في الجمعية، استعرض بدايات النادي الأدبي بالطائف 1975، وفي حفلات الزفاف والغناء بدأت فكرة تأسيس فرع لجمعية الثقافة والفنون 1979 وجاءت الموافقة ليصبح رئيساً للجنة المسرح.  وتحت عنوان: جدلية المرأة والرجل والملابس، استعرض كثيراً من أنواعها ومصادرها وأوقات استخدامها، وتطورها، وتعامل البائع مع المشتري والمقاييس والأسعار..  واعتماد الطبقة المتوسطة على المرأة في الخياطة والتطريز مع وصول الماكينة الحديثة اللومان والسنجر بعد أن كانت الخياطة باليد، وركز على خان القاضي بالطائف الذي احترف خياطة ملابس الرجال ومستلزماته.  استعرض تحت عنوان: مفهوم الرجولة، وتحدث باسهاب عن محاضرة حمزة شحاته (الرجولة عماد الخلق الفاضل) التي ألقاها بمقر جمعية الإسعاف الخيري في 9/ 11/ 1940م وعن الرجولة الناضجة والمراهقة والشعبية، يوصفون بصفات المشكل والحبرتي والزقرت، وعن المشاغبات والتنمر بين أبناء الحارات.  وعن عقلاء المجانين قال إن تحول وادي شهار الى اسم مستشفى الأمراض العقلية والذي يضم عدداً مما لا يخشى بأسهم أولا يسببون أذى لأنفسهم وللآخرين يخرجون خارج سور المستشفى، وأعاد للدكتور أسامة الراضي الدور الكبير والإنساني الذي قضى سنين طويلة في إدارته.. وذكر من بينهم (عواض) و(عبد الملك) و(عبد السلام خنسا) و(فاروق) و(الحاج وردة) و(مرجان الأسمر). عاد بنا للتاريخ حيث دار التوحيد.. فبعد أن أكمل الدراسة الابتدائية عام 1384هـ 1964م وحصوله على أعلى الدرجات وكان يرغب مواصلة دراسته في المتوسطة لرغبته تعلم اللغة الإنجليزية لحبه في جمع الطوابع البريدية وعدم معرفته بلغتها غير العربية، ولكن جده يريده أن يلتحق بدار التوحيد، وحاول مع والده ولكن رغبة جده هي الراجحة.  التحق بدار التوحيد المتوسطة والثانوية ووصفها وصفاً دقيقاً وذكر أسماء الرعيل الأول من عام 1364هـ 1945م وتولي العالم السلفي الشامي محمد بهجة البيطار إدارتها مع ابنيه يسار وعاصم وغيرهم. وذكر كثيراً من القصائد والقصص وهروب الطلاب وخوفهم من أن تأخذهم الدولة وتحرم أهلهم منهم، وذكر كيف اختفى أو أخفي عبد العزيز المسند بالتنور عندما حضرت اللجنة لجمعهم وبعثهم للطائف للالتحاق بالمدرسة.. وقال إن رجال الدين اعترضوا واستنكروا تدريس الجغرافيا والعلوم والرسم واللغات الأجنبية ولهذا أعفيت دار التوحيد من دراستها وتدريسها، وهذا يذكرني بقصة الأستاذين عمران محمد العمران وعلي المسلم اللذين درسا في الرياض الأول بالمدرسة الرحمانية داخل سور الرياض والآخر بالأهلية خارج السور. الأولى معفى طلابها من هذه الدروس أما الآخر فيدرسها وكلاهما اختبرا بانتهاء المرحلة الابتدائية ونجحا معاً رغم أن الأول لم يدرس تلك الدروس لاعتراض رجال الدين لمن هو داخل السور، وكان ذلك حدود عام 1370هـ 1950م وهما بيننا الآن كتب الله لهما الصحة والعافية. استعرض أسماء المدرسين والطلاب والنشاط والقراءة الحرة وانتقاله من قراءة قصص الأطفال المصورة إلى الكتب الإسلامية في المناهج وغيرها.  وبانتقاله للمرحلة الثانوية وجد نفسه في عالم مصطخب فتشكلت شخصياتهم وبدأت الصداقات والتحالفات بين الطلبة وبدأت الخلافات القبلية، وبدأ يدرسهم أساتذة أجلاء من علماء الأزهر وغيرهم وكان يدرِّسهم الفرائض محمد علي حكيم الذي يسمونه (تُوفّي عن) بتعليمهم توزيع المواريث.. فتذکرت ما رواه الشيخ ابراهيم الحجي الذي درس قبلهم بدار التوحيد وكان يُدرِّسهم الفرائض من أسموه (الفرائضي) لصعوبة نطق اسمه والذي سمي به بعد ذلك، وتزوج الحجي بابنة محمد علي حكيم، وكان أحد أبنائه اللواء الفرائضي مدير المستشفى العسكري قبل ثلاثين سنة.  قال إن مكافأة الطلاب تتراوح بين 75 ريال  172 ريال للسنوات الأخيرة، وقد تأخر صرف المكافأة لعدة أشهر، مما حمل بعض الطلبة لقفل باب المدرسة ومنع الطلاب من دخولها، وسار بعض الطلاب إلى إدارة التعليم للشكوى فاستقبلهم المدير وأقنعهم بالعودة للمدرسة، وما علموا أن قصتهم قد ذكرت بإذاعتي لندن وصوت العرب بأنها مظاهرة طلابية. وإن كان قبلها بعشرين سنة قد أضرب طلاب مدرسة دار التوحيد وتفرقوا فوق الجبال المحيطة بالمدرسة لأسباب منها عدم تقديم الشاي كما يقول سعد البواردي وبسببها فصل عدد منهم وهو أحدهم حدود عام 1365هـ 1946م.  وذكر باعجاب مدير دار التوحيد الثانوية عبد العزيز الشائع لحسن تربيته عندما لاحظ هروب بعض الطلاب متسلقين السور فجمعهم وقال أنتم رجال تعرفون مصلحتكم فمن أراد الخروج فليخرج من الباب، وتركه مفتوحاً طوال اليوم ولهذا عرف بالباب المفتوح في مدارس المملكة.  وتحدث عن النادي الأدبي ودوره والقصائد الفكاهية لأبي دلامة وغيره.  وقد جاء لدار التوحيد طالباً عام 1384هـ وتخرج منها 1398هـ، وعاد إليها لمرور خمسين عاماً عام 1414هـ للاحتفال بمرور 50 عاماً على تأسيس الدار مع لجنة عليا.  انتقل لكلية الشريعة بمكة وبدأت التيارات الفكرية وحُسب من ضمن الحداثيين عالي القرشي وسعيد السريحي وغيرهما، ويقابلهم المحافظون من المدينة المنورة عاصم حمدان وغيره. مما سبب له مضايقة من الأساتذة المتطرفين أو جماعة الصحوة…  قال إنه تبنى مع بعض زملائه القيام برحلة علمية إلى نجد ليقفوا على المواضع التي وردت في شعر المعلقات ودراسة الخيل والإبل في شعر امرئ القيس وأعدت الترتيبات بحماسة ولكن الجهات الرسمية قررت إلغائها بمبررات واهية. وهذا يذكرني بما سبق أن دعا إليه الشيخ حمد الجاسر لتحقيق طريق الفيل من اليمن لمكة وتبنى بنك الرياض تمويل تكاليف الرحلة، وعندما نشر خبرها احتج رجال الدين بإحياء ذكرى الجاهلية. فأوقفت الرحلة، ومثلها سوق عكاظ.. تجاوزت كثيراً مما يستحق الذكر لضيق المساحة - فحكايته مع اللغات الأجنبية.. وبحثهم عن اللغة الفصحى في الرنيفة التي أعادتهم مخفورين.. والحداثة وسياقها تستحق وقفات وبالذات ما يتعلق بالشاعر محمد الثبيتي وقبله عبد الرحمن السليمان العثيمين.  ولابد من الإشارة السريعة إلى دعوة سعيد السريحي لأستاذة الدكتور لطفي عبد البديع على عزيمة في منزله بالرويس بجدة ودعاه من الطائف وبعض زملائهم فاتفقوا مع محمد الثبيتي لمرافقتهم ولم يسبق أن رآه السريحي وفوجئ به فرحب به وطلبوا منه إلقاء شيء من شعره فاعتذر لعدم حفظها وهذا يذكرني بالشيخ حمد الجاسر عندما كان مسؤولاً عن الإشراف على التعليم لدى شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) حدود عام 1368هـ 1949م إذ كان بزيارة لصديقه الشاعر خالد الفرج رئيس بلدية القطيف وقتها فصحبه لاجتماع بعض أدباء القطيف في مجلس ابن نصر الله فكان الجاسر لا يهتم بمظهره وملبسه فاعتقدوا أنه من البادية فلم يهتموا به وعند نهاية الجلسة قال الفرج نسيت أن أقدم لكم الشيخ حمد الجاسر ففرحوا وأعادوا الترحيب والاحتفاء به وأكرموه.  اختتم الدكتور عثمان كتابه الرائع والبالغ 332 صفحة: «... قصة الحداثة التي لم تكتب بعد … وبعد ما يقرب من أربعين سنة نحن أحوج إلى دراسة أو كتاب يرصد قصة الحداثة ويحلل رواياتها، وينقلها من طور الحدث التاريخي إلى طور الفكر التاريخي..»