ظاهرة التقييم.
          لم يعد التقييم اليوم أداةً لقياس جودة الخدمة كما أُريد له في الأصل، بل تحوّل في كثير من الجهات إلى غاية شكلية تتقدم على الخدمة نفسها. فالعميل يواجه مطاردة مستمرة تطلب منه “التقييم” حتى قبل أن تُنجز معاملته أو تُحل مشكلته، وكأن الخمس نجوم أصبحت أهم من جوهر الخدمة ونتيجتها. لقد ابتُذل مفهوم التقييم حتى فقد قيمته. فالمؤسسات الحكومية وبعض شركات القطاع الخاص والتطبيقات الخدمية كافة، باتت تلاحق العميل برسالة واحدة تتكرر بإلحاح: “قيّم تجربتك” حتى لو لم يلمس نتيجة أو يلمح أثراً حقيقياً للخدمة. وهذا خلل مهني وإداري يُضعف مستوى الجودة، ويجعل غاية المؤسسة شكلاً من البريق الرقمي، لا أثراً واقعياً يشعر به المستفيد. إن الموظف الذي يُربّى على أن التقييم هو معيار نجاحه، سينشغل بالنجوم لا بالخدمة، وبالواجهة لا بالجوهر. وسيتحوّل العميل في نظره إلى وسيلة تمنحه “درجة”، لا غاية تستحق بذل الجهد وتحقيق الرضا. وهنا ينقلب المفهوم: فتصبح الخدمة ثانوية، بينما يصبح التقييم غاية بذاته. أما العميل، فقد تحوّل من طرف مستهدف بالخدمة إلى طرف مستهدف بالتقييم. وكثرة الرسائل أفقدت العملية قيمتها ورونقها، فأصبح التقييم عند كثيرين مجرد مجاملة عابرة أو إجابة اضطرارية للتخلص من الإلحاح، لا حكماً موضوعياً على جودة الخدمة أو كفاءتها. إن أصل المشكلة يعود إلى هوس رقمي داخل بعض المؤسسات: أرقام تُرفع، وتقارير تُلمَّع، ومؤشرات أداء تُجمل، بينما التجربة الحقيقية للعميل تبقى كما هي: مرهقة أو ناقصة أو بطيئة. والمفارقة الصادمة أننا نجد أحياناً خدمة مرتبكة تطاردك بخمس نجوم! ولكي يستعيد التقييم دوره الطبيعي بوصفه أداة تطوير لا أداة تزيين، فلا بد من إعادة ضبط المسار عبر ثلاث خطوات واضحة: 1. طلب التقييم بعد إنجاز الخدمة فقط لا قبل ذلك ولا أثناءه. 2. اعتبار التقييم وسيلة تحسين لا وسيلة تجميل لمؤشرات الأداء. 3. تقنين رسائل التقييم بحيث تُطلب مرة واحدة بوضوح، لا بطريقة إلحاحية منفرة. لأن الخدمة التي تحتاج إلى استجداء التقييم هي خدمة فاشلة في جوهرها. فالجودة تُصنع في الميدان لا في الاستبيان، والعميل لا يمنح النجوم بل يمنح الثقة، فإذا خدمته جيداً قيمك دون أن تطلب ذلك منه.