قراءة في ديوان مواسم الشعر للشاعر حمد الرشيدي..
تقاطعات الرؤى وملامح التقليد و التجديد.
 
          لم تعد الرؤية الحداثية في المضامين و الجماليات محاصرة بمحدودية ومواصفات التقييم و التقويم ؛ فقد تقاطعت الرؤى وتداخلت المعايير و تعالقت المستويات التعبيرية و الملامح الجمالية ؛ فالقصيدة التناظرية أضحت قادرة على استيعاب المشهد المعاصر بملامحه كافة ، وأضحت السياقات المتراتبة قابلة للفهم و الاستيعاب ، و الديوان الذي بين يديّ نموذج لهذا المنحى الجديد في موضوعاته وجمالياته ورؤاه . يستهل الشاعر ديوانه بإهداءٍ يوضح فيه مفهومه للشعر : الشاعر الحق من كانت قريحته خصماً له ، بل محامية و قاضية ، وهاتان عبارتان مكتظّتان بإيحاءات دلالية بالغة العمق ؛ إذ يغوص بهما في أعماق النفس ويستلّ سرّ الإبداع كما يفهمه ويمارسه ، ويواجه صراعه و مغالبته ، ويحدّد دوافعه وطبيعته ، ولهذا نجد هذه المجموعة الشعرية تحمل عنوان (مواسم الشعر ) بصيغة الجمع تعبيراً عن التنوّع و التعدّد ، فموضوعاته متعدّدة: الوطن بمواقعه الدينية و المدنية ، ومعاركه و مواسمه والأوبئة التي ألمّت به و الشاعر ومساجلاته وتجاربه ،وأصدقائه ومناسباته ، وأساليبه وشعرياته من وصف وسرد وقص ، وهواجسه وروحانياته و مناسباته ومواسمه ومناخاته النفسية وأمزجته ، ومغامراته العاطفيّة و علاقاته وقفشاته وحواريّاته ، فهو يضرب في كل اتجاه وينحو كلّ منحىً في قصائده . أما وطنيّاته فيستهلّها بذكر الحرم الشريف؛ فيخاطبه معتزّاً بمقامه ومكانته الدينيّة وعلاقته به وارتبطه وانتمائه، ويحفر في تاريخه مُظهراً أمجاده معتزّاً بوطنيّته مستثمراً شتّى الأساليب إخباريّةً وطلبيةً استفهاماً ونداءاً ودعاءً له وتصويراً لتعلّقه بجماله في صور قريبة مألوفة معتادة ؛ ولكنها عفويّة كثيفة مستثمراً معجماً زمنيّاً ومكانياً وتاريخيّاً مألوفاً داعيا له وساخطا على أعدائه : زهر المواسم فيك طول العمرلم يشك ذبوله يارب شتّت شمل من عاداه لا تجمع فلوله وأدم علينا عزّه وأدم بفرحتنا شموله و في قصيدته (الرياض) بوح تلقائي وجداني “وكأنما يتحدث إلى نفسه مراجعاً لما وقر في وجدانه وما استقرّ في قلبه من الحب دون أن يتكلّف يعمّل، وهذه التلقائيّة سر جماليات القصيدة ؛ إذ تتقاطع فيها حيوية المشاعر مع فنّية السبك وإيقاعية الوزن، وإعادة إنتاج ما هو شائع وذائع في هذا الإطار دون إحساس بمألوفية القول واعتياددية السمع، ويأتي ذلك في المغايرة بين ما يشعر به وما يألفه الآخرون؛ فالرياض تُؤوّل على أنها جمع للروض وليس مجرد اسم لمدينة ، وهذا مايسوّغ تفوّقها وعشقها. وهو يستثمر النكهة العامية في المفردات الشائعة لتكتسي إيحاء جديداً (مالي إذن بالطوال العراض) هذه ومضة تعبيرية وبارقة جماليّة تخالف المعتاد وتكسر المألوفية وتعزّز القيمة الجمالية, وتحفل القصيدة ببوارق مستقاة من مصادرها النصيّة التي تُكسبها إيحاءً فريداً ، كقوله : “هم الأهل طولاً و عرضاً “ ما يذكّرنا بقول الشاعر الشنفرى هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جر يخذل في لون خفي من ألوان التناص ، وفي استثماره لبعض المفردات العصريّة الذائعة في الثقافة الرقميّة ( وتبّاً لقولٍ هواه افتراضي) فكلمة افتراضي تحيلنا إلى عوالم التكنولوجيا المعاصرة، وفي مقابل ذلك العبارات الشائعة في التربية الحديثة (روح الرياضي) فثمّة طرافة وخفة روح وعدسة لاقطة تختار زاوية التصوير لما هو عادي ومألوف تكسبه سمة الغرابة و المفاجأة ، مع قدرة على الوصف و البوح وانتزاع المألوفية عبر ربط ماهو عام بما هوخاص، ذو نكهة سيرية ذاتية: ثلاثون عاماً مضت أو تزيد سكنت الرياض وطاب ارتياضي وطرافة التعبير ومدهشاته لدى الشاعر حديثه عن الرياض بإسباغ النكهة الأنثويّة في خطاب حميم معاتباً ومسامحاً عمّا يراه في هذه المدينة من صخب و زحام ، وذلك من أسرار الجمال الفني في هذا النص الذي يستنقذه من دائرة التقليد والمألوف و المعتاد : أسامحها حين تقسو عليّ وأعرض عن صخبها بالتغاضي وفي الشأن العربي العام يتحرّى دقائق الظواهر ويلامس أسرارها، و يكشف خفاياها ويخترق سجف الحاضر إلى الماضي، كما في قصيدته (طوق صنعاء) التي يقصد بها مجموعة من القبائل اليمنيّة التي لها دور في السياسة يلتقط أسرارها و تاريخها ، ويبرز المفارقة بين الظاهر في سلوكها و الباطن، وذلك عبر تاويل لغويٍّ طريف تمثّل في قوله: صيّروا قحطان قحطاً وابتغوا عن حمى عدنانهم حُمّى عدن وحشد مفردات تاريخيّة للأعلام من عرب و من عجم في صياغة موحية بدور هذه القبائل ، وضَمّن شعره تلميحات تناصيّة مع ماشاع في أقوال العامة و الخاصة (الحابل و النابل) و (خضراء الدمن) المقتبسة من الحديث الشريف مُوَظِّفا لإيحاءاتها الدلاليّة على نحوٍ مدهش . وفي إطار ما أشرت إليه من تنوّع وتعدّد في الثيمات و الموضوعات و المناسبات تأتي مناسبة شهر رمضان وكورنا فيتناولهما في قصيدة واحدة تحت عنوان (ابتهالات رمضانية في زمن الجائحة) وأفرد للجائحة قصيدة خاصّة تحت عنوان (تنين كورونا) وفي هذه القصيدة ما يلفت الانتباه من طرافة التصوير وبراعة التعبير ، وربط الداء بمنشئه في الصين وتصويره تنيناً وتقديمه في مشهد وحشيٍّ والإحاطة بخلفيته الديموغرافيّة و الجغرافية على نحو لافت ، وتزويد المتلقّي بمعارف توضّح معالم الحائحة التي يشخّصها ويخاطبُها ويذكّر فيها بغرائب الكائنات و ما توحي به من خرافات وأساطير (العنقاء والرخ والغول) وأقوام (يأجوج و مأجوج) وما أحاط بالأمر كلّه من روايات قرنها إلى مذخور الذاكرة المعرفيّة في هذا الشأن في التراث: (أأمك من بني العنقاء أم أن أباك الغول و الرخ) أما مساجلاته ومخاطباته مع أقرانه فتنطوي على روح اجتماعيّة مُجاملة طوّافة بالماضي و أعلامه و الوطن وأرجائه ، والعروبة أصالةً و أمجاداً والشعر إتقاناًٍ وإبدعاّ عبر تصوير تشخيصيٍّ يبث الحياة في عروق المعالم و المعاني وكنايات قديمة راسخة في الوجدان (أخا العرب) و(يا لسان مضر) والمبالغة المستحبة المزجاة بالمحبة : الشعر أنت أهلوه و موطنه إن يذهب الناس مامعناك ياوطن أما قاموسه الشعري فينطق بلسان عربي مبين مدجّج بالاعتزاز و الاعتداد و الفخر ، حقوله الدلالية تتقاطع مع حسّه العروبي وثقافته التراثيّة. وفي إخوانيانه ملامح من تهجين دلاليٍّ مقصود يرتاد مساحات من التعبير تتقاطع فيه قسمات من روح العصر وأصالة التراث على نحو ما هو واضح في قصيدته (معلقة اسمها فارس مهداة إلى صديقه فارس كرم غطاس ، وهوأديب معروف يحاكي فيها بعض الملامح التعبيريّة في المعلقات ، و يمزج فيها بين الأسماء العربية و الأعجمية الغربية بشكل يوحي بخفة الروح والهزل و المداعبة الطريفة: معلقتي التي سميتها فارس “ غداة البين إذ رحلوا “ على ضفاف الراين أنشدها (قفا نحكِ) وهي قصيدة ترسم لوحة (بورتريه) لصديقه مستحضراً قسمات العربي و ملامحه وشجاعته و فطنته في سلسلة من الأوصاف ، فهو كنعانيّ فينيقيّ عربي ، راصداً تحوّلاته معدّداً مواهبه سارداً منجزاته محيطاً بتفاصيل رحلته ومجاهداته نموذجا للعربي الزاخر بالمواهب المتصدي للتحديات . محافظاً على جوهره الإنساني. ويقدمّ في قصائده نماذج إنسانية حيّه سرداً و وصفاً ورسماً و تشكيلاً ، يخرج فيه عن نمط القصيدة التناظرية التي التزم بها وبأوزانها المعروفة في جل قصائد الديوان ، وفي قصيدت الموسومة ب(أعمى وليل) التي يشير في مقدمته النثرية لها إلى مصادفة لهذا النموذج فيتحدث عنه واصفاً تارةً ومخاطباً له تارة أخرى، مستثمراً شكل النّص على الورق في رسم تعبيريٍّ متخذاً شكل المثلث و المزهرية مستقيما ومقلوبا في فقرات، ويصف ما أنطقه بها (بأنها تلبسته حالة شعرية) نتيجة لحالة البؤس التي بدأت مظاهره عليه مستدعياً صورة المعرّي في عزلته كما تصورها في (سقط الزند) و (رهبنته) كما وصفها ، وطه حسين في منادمته للوحشة على نحو ما تبدّت له في كتابه (الأيام)، ورصد ردود فعله في حواره معه ، وما انتباه من شك وقلق . وقدعمد إلى حشد جملة من الافتراضات ، كان يمكنه من خلالها أن يستميله : ولكنه يكاد يجزم بأنه لن يستجيب له معبّراً عن أزمة وجوديّة كيانيّة يمثّلها هذا النموذج البشري الذي حاصره البؤس وأفقده ثقته بالآخرين في ملمح نفسي رهيف هكذا أنا أحسبه ليس يشبهه أحد حوله غير وحدته و توجّسه والدجى و العمى وفي الديوان نصيب للقصص الشعري ، تسري فيه روح الطرافة و السخرية من ناحية ، ويحفل بالتحليل النفسي وقراءة الملامح و التعمّق في الأغوار الداخليّة و المسح الاجتماعي لرواد المقاهي مستثمراً اللغة الفورية والاصطلاحيّة الشعبية المتداولة في نكهة دراميّة تأمليّة ، كما في قصيدته (قصة في قصيدة) استوفى فيها العناصر الفنيّة المعروفة وفق المثلث الأرسطي : (البداية و الذروة ولحظة التنوير) وبث فيها شيئاً من الطرافة و الانتقاد و السخرية الخفيفة . وكنت أتمنى أن يسعفني المجال لأتقرّى ملامح هذا الديوان الغني الزاخر وأن أقارب إيقاعاته و ملامحه على النحو الذي يستحق ، ولكنه العذر المعتاد (محدودية المساحة ومغالبة المتاح).
