حين كان الحوار مدرسة ..

صالون العقاد كما رآه أنيس منصور.

أعاد أنيس منصور بعين التلميذ المبهور وذاكرة الكاتب النابه، الحياة إلى صالونٍ لم يكن مجلسًا للأحاديث العابرة، بل ميدانًا تتصارع فيه الأفكار وتتلاقى العقول، فاسترد كتابه «في صالون العقاد كانت لنا أيّام» زمناً كانت فيه الكلمة مرجعًا، والحوار مدرسةً، والمثقفون أبناء بيت واحد اسمه الفكر. استمد أنيس فكرة الكتاب من تشجيع زوجته، التي كانت ترى في حديثه عن العقاد دفئًا إنسانيًا لا يجوز أن يبقى بين جدران البيت، فطلبت منه أن يوثق معاصرته للصالون، فامتثل لها، وبدأ رحلة التوثيق لجلسات الجمعة التي احتضنها بيت العقاد في مصر الجديدة، وجمعت أدباءً وشبابًا ومفكرين من كل صوب. تحوّل الصالون مع الزمن إلى مدرسة فكرية غير رسمية، فيها يتدرب الشباب على السؤال والاعتراض، ويتعلمون كيف تُبنى الحجة، وكيف يُرد على الرأي بالرأي لا بالانفعال، حيث يجلس العقاد في صدر المكان شامخًا، كأنما يوزع من وقاره هيبةً على الحاضرين، وأنيس منصور يرى فيه الأب الروحي والملهم، لا يمل من الإصغاء إليه، ولا من مراقبة ملامحه حين يفكر أو يغضب أو يصمت. بلغ تعلق رواد الصالون بالعقاد حدّ أنهم عرفوا تفاصيله الدقيقة من مواعيد نومه، نوع قهوته، الكتب التي يطالعها، وحتى طريقته في استقبال الضوء الصباحي من نافذته، لم يكن ذلك فضولًا، بل حبًا خالصًا لشخصٍ مثّل لهم الاستقلال والعقل والكرامة، فكانوا يشعرون أن في وجوده طمأنينة فكرية، وأن كل من يدخل مجلسه يخرج مختلفًا، أكثر وعيًا وأقرب إلى ذاته. كان صالون العقّاد لدى منصور منبعًا لمصطلحات معرفية جديدة، وبيئةً تتجلّى فيها الاختلافات في الرأي بثوبٍ من القبول والاحترام والعفوية، فيتعلم الحضور كيف يُدار الحوار، وكيف يُحتضن الخلاف دون أن يتحوّل إلى خصام، ومن بين تلك الجلسات، وُلدت مفاهيم مثل «عقدة الوضوح» التي عبّرت عن فلسفة العقاد في التعامل مع اليقين والشك، وأظهرت كيف يمكن للفكر أن يكون عميقًا دون أن يفقد بساطته، وجريئًا دون أن يتخلى عن أدبه. روى أنيس أن سأل أحد الحاضرين العقاد: لماذا تكتب كلمة ربما، وأنت واثق من رأيك؟ بينما طه حسين لا يستخدمها، مع أن مذهبه التشكيك؟ فأجاب «هذه يا سيدي عقدة الوضوح الشديد، أنا نشأت في أسوان، بلدة النور والصفاء، أرى الأشياء على حقيقتها، أما طه حسين، فلأنه ليس على يقين من شيء، يسرف في اليقين بلا سبب معقول، أنا إن شككتُ في أمرٍ فلكثرة ما لديّ من يقين، وهو إن أسرف في اليقين فلكثرة ما لديه من أمورٍ مشكوكٍ فيها». خلّد أنيس هذه اللحظة لأنها تلخّص جوهر الصالون من فكر لا يخشى السؤال، ونقاش لا يهاب التناقض، وإيمان بأن الخلاف لا يفسد للود ولا للفكر قضية، ومن بين الجدل والنقاش والسخرية الراقية، وُلدت رؤى جديدة وأجيال مثقفة حملت مشعل الفكرة العربية الحديثة. حمل أنيس منصور من صالون العقّاد وصيةً فكريةً أكثر منها ذكريات، في أن تكون للكاتب شخصية، وللكلمة وزن، وللخلاف معنى، حيث جاء كتابه كمن يكتب عن أبٍ رحل وترك في القلوب أثره وفي العقول ضوؤه، وحين طوى الصفحات الأخيرة، كان يعلم أنه لم يوثّق مجرد صالون، بل وثّق عصرًا كاملًا من الوعي والجدل والإبداع. تتسلل بين سطور الكتاب إشارات دقيقة توحي بأن أنيس يحاول - دون تصريح مباشر- يكشف مدى هيمنة العقاد على تفكير روّاد صالونه الأدبي، أولئك الذين رغم محاولاتهم المتكررة، لم ينجحوا غالبًا في الخروج من عباءته الفكرية. سعيهم الحثيث إلى التحرر من هذا الأسر دفعهم إلى التوجه نحو من يخالفونه الرأي، أو من لا يحظون برضا العقاد، وكأنهم يبحثون عن نسمة هواء مختلفة بعيدًا عن ظلاله الثقيلة، ووسط هذا الصراع الخفي، يمرر أنيس رسالة مبطّنة، لا يلتقطها إلا القارئ النابه «كن أنت، ولا تكن نسخة من أحد».