40 عاماً من التحول الشعري في المملكة ..
دراسة جديدة ترصد أهم فترات الشعر السعودي حداثة وجدلاً .
ما هو العدول في الشعر؟ وكيف وظفه شعراء المملكة؟ وكيف كانت استجابة المتلقين؟ تساؤلات تجيب عنها صفحات كتاب د. آدم يوسف آدم، الذي يأخذنا في رحلة شعرية ممتعة على مدار أربعة عقود؛ ليخرج برؤية كلية شاملة للأساليب اللغوية ومضمون القصائد التي أنتجها مبدعو المملكة فضلا عن تناول السجال الفكري والمعارك الأدبية حول الحداثة الشعرية ومعارضيها. يشير إلى أن العدول هو مصطلح وثيق الصلة بالدراسات القرآنية والتراثية والبلاغية، وهو يعبر عن استبيان مواطن الدهشة ومكامن الخروج عن المألوف والمستقر من أساليب وطرق للتعبير ويجعل اللغة غاية لتحقيق الجمالية في الشعر. بل هو أحد أهم الأدوات التي استخدمها الشعراء لصنع جماليات قصائدهم. وقدم المؤلف مقارنة بين إشارات النقاد إلى العدول أو الانزياح لافتا إلى أنهما يفضيان إلى بعضهما مطوفا بنا في المصطلحات الموازية عند النقاد الغربيين والعرب ومنها: الانحراف، الاختلال، الإطاحة، المخالفة، الشناعة، الانتهاك، خرق السنن، العصيان، التحريف، خرق السنن، العصيان، التحريف. الدواوين التي تمت دراستها تمتد في الفترة من (1965-2005) مستجلية مراحل تطور القصيدة في تلك الفترة وهي الفترة التي رأى فيها الباحث واحدة من أهم فترات الشعر السعودي حداثة وجدلا فكريا وثقافيا فضلا عن تنوع أساليبها الأدبية، وشهدت خلافا بين شعراء الحداثة في المملكة ومؤيديهم والمحافظين وأنصار الصحوة من ناحية أخرى ما دفع الباحث إلى البحث عن أسباب رفض النص الحداثي في المملكة. يلفت المؤلف إلى أن قصيدة النثر أصبحت مكونا بارزا في حقبة التسعينيات متناولا الشعراء الذين سجلوا حضورا لا يستهان به مع تقسيم فني وأسلوبي لقصائدهم ما يعطي بانوراما أدبية لبزوغ قصيدة النثر السعودية. والكتاب الصادر عن دار كنوز الأردنية في 350 صفحة، هو دراسة شيقة قام الباحث فيها بتحليل النصوص الشعرية متخذنا نظرية التلقي منطلقا لذلك. صنف المؤلف الشعراء وفقا للإطار الزماني إلى ثلاثة مراحل: الأولى )1965–1980( تلك المرحلة التي شهدت انطلاق قصيدة التفعيلة وإعلان التحديث وخلق كيان شعري جديد، مدعوم من الصحافة والرؤى والتصورات النقدية القائمة على أسس علمية ومن شعرائها: سعد الحميدين، محمد العلي، علي الدميني، غازي القصيبي، أحمد الصالح. بينما المرحلة الثانية ما بين (1980- 1995) وشهدت موجة الحداثة بمعاركها العنيفة ومن أبرز شعرائها: محمد الثبيتي، عبد الله الصيخان، محمد جبر الحربي، محمد الدميني، محمد عبيد الحربي، أحمد عائل فقيهي، فوزية أبو خالد. ويعتبر المؤلف المرحلة الثالثة الممتدة من 1995 إلى 2005 بمثابة بيان ظهور قوي لقصيدة النثر مع شعراء دار الجديد ومن ثم تطور هذا النص الشعري إلى آفاق أرحب، ومن شعرائها: محمد الدميني، أحمد الملا، إبراهيم الحسين، أحمد كتوعة، علي العمري، عبد الله السفر، إبراهيم الفوزان، زكي الصدير، عبد الله ثابت، محمد الماجد، علي الحازمي، إبراهيم زولي. وقبل أن يحلل نصوص شعراء المراحل الثلاث، خصص وقفة مع محمد العامر الرميح، وعبد الرحمن المنصور، وناصر بوحميد الذين نشروا قصائدهم في الخمسينيات وكانوا سباقين لدروب الحداثة الأدبية. لافتا إلى أن شعراء هذه المرحلة كانت الرمزية هي السمة البارزة في نصوصهم والتجديد الشكلي للقصيدة وانفتاح النص وتستند النصوص لضوابط يتقدمها الإيحاء وتداخل الحواس، وطغيان الألوان ذات الدلالة الموحية. قدم الباحث تحليلا لبعض نصوص محمد العامر الرميح، وعبد الرحمن المنصور، وناصر بوحيمد حيث تزدان النصوص بغموض وإيحاءات وزيادة جرعة الالتباس عبر العدول عن مباشر القول، مثلا يستعرض مقطع (قلق) لبوحيمد: أمطرت السماء فالتهمي يا أمنا الحنون في العراء/التهمي الرذاذ واتخذي من الملاذ في المطر أرديه من الخدر يؤكد د. آدم أنه رغم اختلاف ملامح الرمزية في اتجاهات هؤلاء الشعراء والتي تماهت مع ما كان ينشر في القاهرة وبيروت، وظهرت الواقعية في بعض نصوصهم نتيجة تأثير أحداث سياسية كانت تضج بها البلاد العربية في وقت لم تغب أيضا الرومانسية بأجوائها. أما عن تأثيرهم وكيفية تلقي إبداعهم، يكشف المؤلف أن قصائدهم لم تستفز المتلقين ولم تستفز أقلام للكتابة ضدها أو انتقادها مقارنة بما حدث مع شعراء الجيل السابق لهم. ورغم تأسيس الرميح لملتقى الوادي المبارك إلا أن هذا الملتقى لم يتبن اتجاها أدبيا بعينه. أما عن استجلاء أفق التلقي الذي كان يتم عبر قنوات تراوحت ما بين الصحف وأشرطة الكاسيت ومنابر مختلفة لكن تلقي أعمالهم تمت مقابلته برفض من قبل تيار المحافظين الذي سيطر على أفق التلقي. يتتبع الباحث وفقا لدراسات سابقة حول أيديولوجيا الصحوة وكيف تشكلت مستخلصا أن هجرة الإخوان والسلفيين من مصر وسوريا كان لها عظيم الأثر في تكون “الصحوة” وظهرت تداعياتها على أفق التلقي وتوجيه المزاج العام والاحتماء بالأصالة في مواجهة الحداثة ما أدى لرفض نصوص الشعراء الحداثيين. وتستمر متعة القراءة مع العدول ذلك الانزياح الجمالي الذي يكسر أفق توقع المتلقي ويمنحه متعة الإبحار في نصوص تحلق خراج سرب الأنماط الشعرية المعتادة ليوضح لنا المؤلف مستويات العدول لدى شعراء الحداثة، وهي: مستوى الوزن الشعري، مستوى اللغة الشعرية، مستوى المضمون/الصورة. أفرز العدول تعددا في درجات الاستجابة ما بين مدافع ومنهم: عبد الله الغذامى وسعيد السريحي وعابد خزندار، عالي القرشي، عثمان الصيني، محمد صادق دياب، أما الاستجابة الأخرى تمثلت في الرفض القاطع لنصوص هؤلاء الشعراء منطلقين من رفض الحداثة برمتها، من أبزرالكتب (الحداثة في ميزان الإسلام) وكتاب د. عدنان علي رضا النحوي (الحداثة من منظور إيماني). فيما وقف عدد من النقاد موقف الارتياب من الحداثة الشعرية معتبرين أنها تقليد أعمى للغرب دون تجديد حقيقي وأبرزهم أحمد فرح عقيلان، مؤلف “جناية الشعر الحر” والذي تم نشره على حلقات في “المجلة العربية”. ويشير المؤلف مستشهدا بتحليل د. عبد الله الغذامي أن نهج العقيلان وموقعه في الأندية الأدبية ساهم في ترسيخ التيار المحافظ بها. كذلك اندرج في هذا التيار أحمد الشيباني، وعبد الله مليباري الذي كان له الدور الأبرز في مهاجمة الحداثة عبر مقالاته في صحيفة الندوة المكية، وكانت من أبرز المعارك الصحفية والأدبية ما دار من صولات وجولات بينه وبين الغذامي. وهنا يلفت المؤلف إلى أن أفق التلقي تجاه أدب الحداثة لم يقف عند حد فاصل، بل كانت هناك مسارات أخرى للتلقي تنحو للقبول، وكانت قنوات الدفاع عن الحداثة، هي: صحف اليوم وعكاظ والرياض، وملحقا المدينة واليوم الاسبوعيان، ومجلتا اليمامة واقرأ. ويستشهد المؤلف بما قدمه الغذامي في كتابه الموسوم (حكاية الحداثة) عن دور عدد من الشخصيات الاعتبارية داعمي الحداثة: عبد الفتاح بومدين، رئيس النادي الأدبي في جدة، والأديب المعروف عزيز ضياء، وهاشم عبده هاشم، رئيس تحرير صحيفة عكاظ، والوجيه عبد المقصود خوجة، ود. رضا عبيد، مدير جامعة الملك عبد العزيز. ويشير المؤلف إلى أن عملية التلقي لا تخلو من التعقيد؛ إذ يبرز على السطح عناصر أخرى من بينها: القارئ الضمني، وهو قارئ خيالي لا وجود له وقت التأليف، لكنه يتكون من كل قارئ وتأويله الخاص. ويخلص إلى أن الجدل الذي أثارته نصوص الثمانينيات دليلا دامغا على فنيتها العالية ومقدرتها على إحداث صدمة لأفق المتلقين في مجتمع محافظ. ويشير المؤلف إلى دور محاضرة الشاعر حمزة شحاته(الرجولة عماد الخلق الفاصل) التي تضمنت مقولات فلسفية شكلت صدمة للحضور، وقد ألقاها في جمعية الإسعاف الخيري في مكة المكرمة 1940، بحضور جمع غفير من المتلقين، ويأتي المؤلف على ذكر الشاعر محمد حسن عواد الذي أصدر كتاب(خواطر مصرحة) عام 1926 وتضمن الكتاب أفكارا تحديثية لم تكن مألوفة في حينه. وبداية من الفصل الثالث وحتى الفصل الخامس، يحلل المؤلف نصوص شعراء المراحل الثلاث وهو جزء ممتع ويكشف للقارئ الجهد الذي بذله الباحث لتحليل عدد من نصوص شعراء الحداثة في المملكة، مقدما عن كل منهم نبذة عن حياته وقراءة في شعره وكأنها دراسات حالة مكثفة متتبعا بناء النصوص ومحاورها البنيات السياقية الصغرى والكلية والتركيبات الدلالية والعدول والتركيب المعجمي ومواضع الإسناد، والجناس والتقفية، وجماليات التوازي وتدرج المعاني والأوزان الشعرية مقدما مقاربات للنصوص ومكاشفة لأسرارها ومواطن الجمال فيها والبؤر الدلالية التي تفتح الباب لتعدد المعاني والتأويل والإيقاع الشعري المميز لكل شاعر. ويختتم الفصل الخامس بمبحث هام حول بدايات ومراحل قصيدة النثر السعودية مقاربا بين قصيدة النثر في بعديها الفرنسي والعربي وخصوصيته الثقافية. ويخلص المؤلف إلى أن نوع العدول في القصائد الشعرية محل الدراسة تراوح بين عدول في الوزن الشعري أو اللغة أو الصورة الشعرية وهذا التنوع له دور فاعل في تعدد أنواع التلقي وتفاوت درجاته ما بين رفض واستجابة، أو تحفظ تجاه النظريات اللسانية الحديثة من أسلوبية وبنيوية وغيرها. ويعد هذا الكتاب إضافة للمكتبة العربية من حيث استناده للمنهج العلمي والنقد الثقافي الحديث للشعر العربي.