علامة استفهام على حذف فصل « أطفال فرويد .. » ..

الطريقة والمنهج في قراءة «طارق الخواجي» للأعمال السينمائية .

خلافاً لما تعهدته البشرية وتعارفت عليه منذ القدم؛ في ممارسة الأعمال الإبداعية، الفنية منها والأدبية، نجد أن السينما قد طرأت كحدث وفن يجمع ويمزج بين أجناس أدبية وفنية مختلفة، وتتفرد عنها بقواعد وصفات خاصة تميزت بها. جامعة بين فن التراجيديا والمحاكاة والحبكة كما نظر لها أرسطو، ومتجاوزة لجدل رسم المنظر الطبيعي أو التعبير الشاعري عنه؛ بمقولة «هوراس» الشهيرة في القرن الأول: «الرسم شعر صامت، والشعر رسم صائت»، وصاعدة درجة أعلى من استعارة شكسبير عن الحياة باعتبارها مسرحاً كبيراً، وأن «كل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح»، إلى أن تصبح الحياة في الاستعارة الحديثة الممتدة «صالة سينما كبيرة / دخلتها بكامل دهشتي/ وجلست لأنني فقير/ في مقاعدها الرخيصة»، كما عبر عن ذلك محمد النعيمات في نصه الشعري. بل تجاوزت السينما نفسها أيضاً، وقفزت على مفاهيم بداياتها المبكرة وعقيدة المنتج الإيطالي كارلوبونتي بأنه يجب: «أن تصل السينما إلى أمعاء المتفرج، وإذا وصلت إلى دماغه، ذلك يعني أن الفيلم سيء؛ فالإنسان الذي يريد تثقيف نفسه لا يذهب إلى السينما، وإنما يأخذ كتاباً»، أي مجرد متعة خالصة وتسلية. والنقض أتى من المنُظِر والمخرج السينمائي الفرنسي جان ميتري في رؤيته واستشرافه بأن السينما أضحت «تشكل الواقع وتهزّه حتى يحمل معنى إنسانياً». وفي تساوق مع هذه الرؤية الأخيرة، يأتي كتاب طارق الخواجي في النقد السينمائي «عيون محدقة باتساع» * مسلطاً الضوء على الثيمات والسمات للمواضيع الأكثر بروزاً في السينما المعاصرة، والكشف عن جوانبها الثقافية والفكرية من خلال نماذج اختارها وعمل على فرزها وتصنيفها حسب مواضيعها ثم قراءتها نقدياً. يفتتح الناقد طارق الخواجي قراءاته النقدية للأفلام بتبيان مصطلح «الثيمة» أو «السمة» التي أطرت منهجه النقدي، ويشرحها باعتبارها موضوعاً مركزياً يعالجه العمل الفني؛ حينما قسم النقاد المعاصرون الثيمة إلى فئتين: الأولى، الثيمة المفاهيمية للعمل وهي ما يتداوله المتلقون على أن «العمل يدور حوله»، والثانية بيان العمل الثيمي وهو ما يقوله العمل عن الثيمة. وعليه، وبناء على استشهاده برؤية الناقد الأمريكي رايموند أوبستفيلد، فالنماذج المعاصرة للسمات أو الثيمات في العمل الفني المعاصر، هي الصراع بين الفرد والمجتمع، وبلوغ سن الرشد، وصراع البشر والتقنية، وفداحة الطموح غير المقيد، بالإضافة إلى الحب أو الموت، أو الوحدة. ومن هذا المنظور للثيمات، تتفصل مواضيع الكتاب إلى اثني عشر فصلاً حسب الثيمات التي بنى عليها الناقد طارق الخواجي منهجه في قراءة الأفلام. يكتنز الكتاب العديد من الثيمات المهمة للفرد المعاصر والتي قامت السينما بإبرازها وتقديمها في قالب جمالي معرفي. ولعل افتتاحية الناقد للثيمات في الكتاب بـ «سمة» الدين، كان من أجل إشعار القارئ بجدية وخطورة التناول والمعالجة. وأيضاً لما يمثله الدين من قيمة، وحاجة أيضاً، حسب تعبير الناقد وتبريره للتناول السينمائي العالمي، فمحاولات اللجوء هذه، كما يقول: «جاءت لتطرد فزع الإنسان من الموت، ولتمنحه العزاء في البقاء، ولتساعده على الاستمرار في الحياة». تحت هذا العنوان «الدين والأيديولوجيات الكبرى وتجلياتها»، تفرعت محاور الفصل الأول إلى ثلاثة: التبشير، الإيمان والصراع، الهجاء والرفض. وفي كل محور تناول الناقد الأفلام التي عالجت تلك الثيمة بالقراءة والنقد. ففي محور «الإيمان والصراع» على سبيل المثال، سلط الناقد كشاف الضوء على فيلم «الرجل من الأرض» لريتشارد شينكمان، والذي تتكشف أحداثه الغرائبية من خلال حفلة توديع صغيرة للبروفيسور الجامعي الذي يمثل مركز الحدث، لينطلق (المشاهد) مع رحلة الرجل الذي عاش ألفية واسعة جاب فيها الأرض، وعاصر شخصيات مهمة مثل «سدهارتا بوذا»، و»فان جوخ»، وكان سومرياً ثم بابلياً، وذهب شرقاً ثم استقر في الغرب، وكأنه يتحرك مع التاريخ مادياً. يستعرض الناقد قصة الفيلم من خلال حبكته، ثم الوقوف على مفاصل الأحداث وانعطافاتها، ليقرر في الأخير: «ما يجعلني أقول إن الفيلم ذهب أبعد، هو في اللحظة التي يربك فيها البروفيسور، موقف الجميع من اللحظة المسيحية التاريخية، إذ بسرده يضطرب إيقاع التاريخ الذي نعرفه، أو على الأقل التصور المسيحي شرقياً وغربياً، إنه شخص من الداخل في سرده للحكاية، لكنه كذلك يتأملها من الخارج، وهو الذي يوتر جو السرد، وهو أمر يدفع بزميلته الجامعية لأن تنفجر في البكاء». ثم يوقف الناقد الخواجي استطراده، ويقول معتذراً لقارئه: «يمكنني الحديث عن هذه اللحظة كثيراً، لكن هذا حتماً سيفسد المتعة التي سيجدها المشاهد الذي ربما يكون في لحظة قراءة هذا الكتاب، لم يجد الفرصة لمشاهدة الفيلم، الذي يمكن القول عنه بكل بساطة: إنه فيلم مختلف وفريد». وهكذا تتالى فصول الكتاب (اثنا عشر فصلاً باثنتي عشرة ثيمة عن ٢١٦ فيلماً عالمياً) التي أبانت خبرة الناقد السينمائية، وحصيلته المعرفية والفلسفية؛ عند تناوله لمواضيع حرجة ومهمة، كما هو عنوان الفصل الثاني «الوجود والعدم واغتراب الإنسان الأخير»، ومحاوره اللافتة: الوجود والعدم، الوجود والماهية، الوجود والاغتراب. فكل محور من تلك، استحضر الناقد فيها فيلماً أو أكثر لاستخلاص الثيمة وإبراز مفاهيمها المعرفية، وتعبيرها الجمالي المرئي. وحرصاً على عدم الإطالة والاسهاب، سنتوقف فقط عند الثيمة التاسعة والتي جاءت بعنوان «الحب ومخدرات أخرى». بالرغم من محاولة استفزاز الناقد الخواجي لقارئه؛ ذلك عندما أوحى له ساعة ولوجه لـ «عتبة» أو عنوان هذا الفصل؛ بأن الحب في بعض صوره عبارة عن «مخدر روحي»، إلا أن عليه عدم الارتباك وهو يخطو دخولاً لاستكشاف ما عناه الناقد بالحب، وما عبرت عنه الأفلام محل الاستشهاد. فيغض الطرف مؤقتاً عن مفردة «مخدرات» ويتجاوزها في المحور الأول «الحب الأمومي»، وليتوقف عند المحور الثاني «الحب الأفلاطوني». فهو وإن كان قدم عن حضور الحب في الأفلام بتنوعات مختلفة: بين الأم وابنها، وبين الرجل والمرأة، وبين الإنسان والحيوان، وبين الإنسان وربه، وبين الإنسان والطبيعة… إلا أنه يرى في حضوره - أي الحب – في هذه النماذج، كان لضرورة البناء أكثر من كونه لبنة أساسية. إذاً، يتبقى الحب كفكرة رومانسية، ولهذا السبب سنتوقف هنيئة عند هذا المحور. عن «الحب الأفلاطوني» كنعت ومفهوم، يرى الناقد الخواجي أنه رغم أن أفلاطون لم يمارس هذا الحب الذي اعتبره آخرون أسمى أنواع الحب، ورغم أن كثيرين فسروه من خلال نظرة صوفية باطنية، حاولت الكثير من الأفلام تضمين ثيمة الحب الأفلاطوني، دون استكشافها بشكل جيد. ثم يشير الناقد لبعض الأفلام والتي يجادل البعض على أنها متضمنة تلك السمة الأفلاطونية مثل فيلم «القدر العجيب» أو فيلم «تائه في الترجمة»، إلا أن الناقد ينفي ذلك، ويختار مثاله الذي تنطبق عليه تلك العاطفة الأفلاطونية: «فيلم قصير عن الحب» للمخرج كريستوف كيشلوفسكي عام ١٩٨٨م. وقصة ذلك الفيلم باختصار، تسرد حكاية «توميك» ذو التسعة عشر عاماً والذي يعمل ساعياً للبريد، ويقيم في مجمع سكني بوارسو. يقضي توميك وقته في التجسس باستخدام تلسكوب على الفتاة «ماغدا» التي تعيش في المجمع السكني المقابل. يراقبها كل ليلة وهي تقوم بمهامها اليومية، وحينما تقابل الرجال. تكتشف «ماغدا» هذه المراقبة وتخبر زائراً لها بالأمر، حيث ينادي على «توميك» ويضربه. وفي اليوم التالي، يعترف توميك لماغدا بأنه يحبها ولا يتوقع أي شيء في المقابل. فتوافق الفتاة على لقائه في موعد، حيث يكشف لها عن مراقبته لها لعام كامل، واستيلائه على رسائل لها. تبدأ ماغدا في الغضب وتخبره بأنه لا يوجد شيء اسمه الحب، فيندفع الفتى خارج شقتها محرجاً ويحاول الانتحار. بعد أن نجا من الموت، تزوره ماغدا ثم تلتفت إلى التلسكوب وتراقب شقتها والأماكن التي يتلصص الفتى عليها فيها. ويعلق الناقد طارق الخواجي على الفيلم بقوله: يلعب فيلم كيشلوفسكي، الرهان في البداية فقط، لكن الفيلم ينسحب إلى المنطقة التي يجادل عنها المخرج «نحن ننظر إلى العالم بعيون الشخص الذي يُحب، لا بعيون الشخص الذي يُحَب»، إذاً نحن في حالة مناظير تتحرك. ففي الجزء الأول من الفيلم، يحضر توميك، وتصبح ماغدا لاحقاً في غياب توميك هي صاحبة المنظور المسيطر. ثم تكتشف ماغدا لاحقاً أنها كانت مثل توميك في مرحلة ما من حياتها، وأن توميك لم يفكر بالحب إلا في صوره المتعذرة عن الجسد، لكنها هي من جرته إلى هذه المنطقة التي أصبحت تعبترها الأصل في الحب، ثم بعد أن فقد الحب قيمته عنده، شعرت بأنها لم تسمح له بأن يكتشف الأشياء بطريقة مختلفة عن التي اكتشفت هي بها انعدام الحب، دون رغبة في المقابل. ألم يتضح بعد معنى وهم الحب أو «المخدرات» كما جاء في عنوان هذا الفصل؟ بقية فصول الكتاب على نفس الدرجة من التشويق لما تتضمنه الأفلام من حمولة معرفية ثقافية، بجانب متعتها الاستطيقية، وهو ما حاول الناقد التنقيب عنه وإبرازه. فالعلاقة بين الفيلم وواقع الإنسان المعاصر - كما تفصح عن ذلك آراء ما بعد الحداثة السينمائية وكما تتبعها الدكتور أحمد جبار - أصبحت مدخلاً معرفياً جديداً وزاوية نظرية أكثر إقناعاً في الكشف عن الهوية الجمالية للأفلام، والتي تتمثل في صوغ الموقف الفكري في شكل فني، يحمل في تضاعيفه مبرراته الفنية عبر جدلية تركيبية مدروسة. وبواسطة كتاب طارق الخواجي النقدي هذا، نكون قد اقتربنا كثيراً من نظرية جان ميتري الشكلية (الفيلم كخطاب جمالي ونص ثقافي)، وشاهدنا كيفية التطبيق عليها، وهي التي تؤمن بدور السينما في التصدي للإنسان وهمومه وانشغالاته الوجودية. ذلك كان منهج الكتاب، وطريقته المثلى لنشر ثقافة سينمائية واعية من خلال المدخل الفكري لتلقي الأفلام، ومرجعاً مهماً لعشاق السينما المؤمنين بفنها ورسالتها، والممتهنين أعمالها، وإن كنا لنستغرب حذفه الفصل الثالث عشر – كما يقول الكتاب – وهو المهم في نظرنا؛ «أطفال فرويد وشباب نيتشه وكهولة داروين»، ونأمل أن يكون ضمن مشروع الناقد القادم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *طارق الخواجي: كتاب عيون محدقة باتساع. (ضمن سلسلة «الموسوعة السعودية للسينما»، ومنشورات جسور للنشر والتوزيع – الخبر - ط١، ٢٠٢٥)