لماذا « مندوب الليل » فيلم مهم؟
عندما شاهدتُ فيلم العزيمة (1939)، أحد أول الأفلام الواقعية في السينما المصرية، ثم تبعته بمشاهدة فوي فوي فوي (2023)، شعرت أنني لا أتنقل بين فيلمين فحسب، بل بين عالمين، بين مجتمعين تفصل بينهما هوة زمنية وسوسيولوجية هائلة. كانت الأسئلة تنهال عليّ بلا توقف كيف تحوّل المجتمع المصري من “هناك” إلى “هنا”؟ كيف تبدّلت اللهجة، واللباس، ونبرة الشارع، وحكايات الناس؟ كيف غابت طبقة وظهرت أخرى، وكيف أعادت مصر إنتاج نفسها مرارًا خلال أقل من قرن؟ بل كيف تغيّرت الشخصية المصرية نفسها؟ هذه الأسئلة لا تولد من حبّ للفن بحد ذاته، بل من قناعة بأن السينما ليست تسلية، بل وسيلة دراسة، الأهم من ذلك انها أرشيف. الأرشيف الذي لا نقرأه على رفوف المكتبات بل نراه يتحرك ويتنفس، ونسمعه يتكلم بلسان أجيال سبقتنا السينما عندي ليست انعكاسًا للحاضر فقط، بل نافذة لفهم الزمن والمجتمع. في فيلم “ العزيمة “ نرى مصر ثلاثينات القرن، وهي تحاول صوغ ملامحها الحديثة، البرجوازية الناشئة، الحلم الفردي، والمدينة كمسرح للتحدي والارتقاء. وفي “ فوي فوي فوي”، نرى مصر ما بعد كل شيء ما بعد الدولة، ما بعد المشروع، ما بعد الجماعة مصر التي تسخر من ذاتها لأنها فقدت أدوات الجدية. هذه المقارنة ليست بين فيلمين فقط بل بين مجتمعين، فيلم “العزيمة” كان ابن عصره، عصر الحلم الوطني، بناء الطبقة الوسطى، الإنسان المكافح الشريف، والمجتمع اللي فيه مظلة قيم وإن كانت تحت ضغط اقتصادي. بينما “فوي فوي فوي” جاء بعد مجتمع فقد بوصلته، وقيمة الإنسان نفسها تم تهريبها للخارج. الفيلم ساخر، ساخر جدًا، لأنه قادم من مصر ما بعد الثورة، ما بعد النكسة الاجتماعية، من مصر الـ”بلا حلم”، وهذا يكفي لفهم التحول الكبير الذي مرت به مصر. هذا ليس اختلافاً بين فيلمين، بل كشفٌ عن عمق التحوّل الذي حدث داخل بنية المجتمع المصري تحوّلٌ موثق، بالصوت والصورة، بنبرات الوجوه والحوارات والموسيقى، في سلسلة طويلة من الأفلام التي أرّخت لعصرها، بوعي أو بدونه. ولعل هذا هو الفارق الجوهري بين مصر والسعودية . المصري، حتى وإن لم يعش في تلك الحقب، يمتلك ذاكرة جمعية مرئية فهو يستطيع أن “يرى” كيف كانت القاهرة في الأربعينات، كيف كانت الإسكندرية في الستينات، كيف كان الحب، والخوف، والطبقة الاجتماعية . أما نحن في السعودية، فقد نشأنا على حكايات الأجداد، لكن لا أحد منا رآها. فلم نشاهد الرياض في الستينات، ولا جدة قبل الطفرة، ولا الشرقية يوم كانت قرى وسبخات. ليس لدينا أرشيف بصري حقيقي يرصد التغيرات الكبرى التي مرت بها الشخصية السعودية، واللهجة، والشوارع، ونمط العيش، والعلاقة بين المواطن والدولة، والأسرة والشارع. كل شيء تغيّر في السعودية، ملامح المدن، البنية القانونية، الطبقات الاجتماعية، الثقافة اليومية، وحتى صورة الإنسان السعودي نفسه. لكن أين هو هذا التغير؟ من وثّقه؟ ما نملكه لا يتعدى صورًا قليلة، غالبًا ذات جودة رديئة، وبعض المشاهد التي تسللت إلى بعض المسلسلات مثل طاش ما طاش، هي محاولات صادقة ولكنها محدودة، وسقفها درامي أو ساخر ومحدود جدًا. لهذا السبب، أرى فيلم “ مندوب الليل “ مهم واهميته تتجاوز حدوده الفنية ، فالأمر لا يتعلق بقصته أو حبكته أو أداءات ممثليه، او رؤية مخرجه، بل أهمتيه في كونه، ربما، أول محاولة سينمائية حقيقية لتوثيق المجتمع السعودي في لحظة تحوّل فارقة. علي الكلثمي لم يصنع فيلم فقط، بل التقط لحظة تاريخية، بكاميرا واعية وشخصيات مأزومة، صوّرت ما يحدث تحت السطح، تآكل الهوية، اهتزاز الطبقة الوسطى، بروز طبقة عاملة جديدة، صعود الفرد، وضياع الجماعة. هذا الفيلم، بعد سنوات، قد يصبح مرجعًا بصريًا لفهم كيف كانت السعودية في عشرينيات القرن الجديد، سيأتي جيل لم يولد بعد، يشاهد هذا الفيلم كما نشاهد نحن اليوم الأرض أو زوجتي والكلب أو الحريف، ويحاول أن يفهم: هل كانت الرياض هكذا؟ هل كان هذا شكل الكلام؟ هل هذه كانت لهجة الناس وهمومهم؟ السينما ليست فنًا فقط، بل ذاكرة نحن كسعوديين، لم نملك السينما كذاكرة، لم يكن لدينا “يوسف شاهين” يرصد صراع الداخل، ولا “صلاح أبو سيف”يسجل صراع الطبقات، ولا “خيري بشارة” يسخر من الشوارع قبل أن تبتلعها العولمة، ولا “محمد خان” يوثق حكاياتنا وقصصنا وأمانينا البسيطة. لكن ربما بدأنا الآن، ربما بدأ الكلثمي، وغيره ممن سيأتون، بصنع هذه الذاكرة، وليس من أجل النوستالجيا، بل من أجل الفهم، من أجل أن نعرف “كيف أصبحنا ما نحن عليه”وكيف تغيرنا، ولماذا. “ مندوب الليل “ ليس حدثًا سينمائيًا فقط، بل حدثًا اجتماعيًا فهو لا يخاطب “المشاهد” فحسب، بل يخاطب المؤرخ، والمستقبل، والطفل الذي سيولد بعد عشرين سنة ويريد أن يعرف كيف كان الناس يعيشون، يتكلمون، يشتكون، يضحكون، يخافون، ويحبون، في زمن لم يعرفه وهذه، ببساطة، هي أعظم وظيفة للسينما.