 
          ما الذي تعنيهِ الحياة؟ ولماذا نحنُ فيها؟ وإلى أينَ نمضي؟ وعلى أي طريقةٍ نسير؟ أسئلة تتكثَّف في وجدان الإنسان نتيجةَ مشاهداته ومعايشاته؛ ليصبحَ فريسة لذاكرة مسكونةٍ بالتفاصيل ومهجوسة بالممكنِ والمحتمل، إذ يغدو دائم العودةِ إليها والاختيار من بينها مستعملاً ألفاظ “لو” و”لو” و”لو”، حيثُ “لو” هي الكلمةُ المفتاح لمراجعة الذاتِ ومحاسبتها على أفعالها وكلماتها، وهو ما يعيدهُ إلى نقطة الانطلاقِ الأولى المتمثلةِ في “الزمن”، الذي أصبحَ الخصم العنيد؛ لأنَّ المواجهة لا تكونُ بين الإنسان والإنسان، إنما بينَ الإنسان والزمان (عواء تنمو أطرافه): “أعظم ما يرعبني في هذه الحياة هو الزمن!” الزمنُ هو الذاكرة التي يمتلكُها الإنسان، وبدونه تتلاشى الذكريات وتُمحى مراحل العيش؛ لذا سيظلُّ الخصم الأول والأكبر في الحياة، حيثُ الإنسان يعيش في صراع أزلي مع زمنه ومع الأزمنةِ التي سبقته، فمع زمنه يصارعُ ذكرياته الخاصة والحياةَ التي مر بها، ومع الأزمنةِ السابقة يصارعُ الثقافة والتاريخ وكلَّ الأشياء التي تشكِّل هُويته وشخصيته، ولهذا سيستمرُّ الصراع إلى أن تأتي لحظةُ الإقرار بالخسارة (عواء تنمو أطرافه): “آهٍ، إني أعترف أمامكم جميعاً بالهزيمة، إن ذاكرتي تكاد تنفجر، وكل فخاخي وأدوات صيدي فشلت في اصطياد لحظةٍ حقيقيةٍ واحدةٍ من هذه الرحلة وحبسها في قارورة ماء، علَّني أستطيع العيش فيها مجدداً إذا ما شربت منها في لحظات الحنين!” العمرُ “رحلة قسرية ممتدة للمجهول”، يصعدُ الإنسان على ظهر “قطار” وينطلق دونَ معرفة المحطات التي سيتوقَّف فيها، أو وجهته النهائيَّة، إنها لحظة انكشاف وتعرٍّ، حيث الحقيقة هي الغائبُ الأكبر عن الذاكرة، أمَّا ما يمر من ذكرياتٍ فليست سوى أحلامٍ تطفو كالغيم وسُرعان ما تندثر؛ لتتعمَّق أزمته وتساؤلاته حولَ الهدف والمعنى من البقاءِ والاستمرار، طالما لا يعرفُ الطريق ولا يدركُ كيف يُقطع! (عواء تنمو أطرافه): “كل حياتي كانت عبارة عن رحلة قسريةٍ في هذا القطار الأصم، الأبكم والأعمى، فلا ينتبه إلى مقدار الوجع في حنجرتي عندما أنفجر يائساً وأصيح من أعماقي كما صاح “درويش” من قبل في وجه سائق الباص العصبي: (أنزلني هنا... أنا مثلهم لا شيء يعجبني.... ولكني تعبت من السفر)!” “الإنسان بلا ذاكرة هو إنسان ميّت” ومهزومٌ، لا يشارك في الوجود، بل يعيشُ الهامش والعتمة، منتظراً موته وعدمه، وهذا ما يُفاقم القلق الوجودي لديه، ليبدأَ في طرح أسئلةٍ أكثر حدَّة على ذاته، إذ الهزيمةُ بسبب وجود الذكريات أهونُ بكثير من الموتِ والعدم، لكنه لا يستطيع تمالك أنفاسِه، لهذا يصرخُ (موت مؤجل): “ما الذي يغريك في العيش ولم يبقَ من حولك غير المحرقة..!” ضيَاع وتبعثر وتشتُّت يسكن الوعي ويقتات على الأوجاعِ والهزائم، فالحياة ذاتها غدت عدماً، والاستمرار في العيشِ يعني القبول بالمحرقة اليومية التي تُلهب بضرباتها جسده وروحه، ويظلُّ الزمن وحده هو القادر على جعلهِ يعتاد كل ما يمرُّ به من ألم، إلى أن يصبح جزءاً من حياته (وحشة): “وألفتُ هذا التيه.. يكتبني ويمحوني على طرق بعيدة...!” الاستمرارُ في الطريق وممارسة الوجودِ يشير إلى عدم الاستسلامِ للهزيمة، إذ يبزغ الأملُ من بين اليأس والوجع؛ ما يدفع الكائنَ إلى اجتراح المعجزاتِ من أجل الخلاص، حيثُ الخلاص هو الهدف (فضاء أبدي): “فلعلَّ حلماً شارداً يلقاهُ في نصف الطريق ويمضيان يداً بيد نحوَ الخلاصِ.. إذِ الخلاص هنا فراغٌ كاملٌ لا شيء فيه ولا أحد!” الفراغُ والتيه والعدم مفردات تشكِّل معجم القلقِ الوجودي، حيثُ تهرب الذات من ذاتها ومن ذاكرتها؛ بهدفِ ابتكار ذاكرةٍ جديدةٍ وذات مختلفة، تنتقمُ من الأبِ الرمزي الذي ظل مسيطراً على تاريخها (الأسلاف): “أتقفَّى داخلي خطوَ آبائي في هذا الجحيم الهائلِ أتهجَّى إرثهم هذا الذي أحلمُ أن أرفعهُ عن كاهلي بجنونٍ قاتلِ...!” نتيجةُ الصراع ضد الزمن ستكون “جثثاً” تملأ الطريق، إذ الأسلافُ ينبغي أن يرحلوا ويكفُّوا عن التدخُّل في وجودنا وحياتنا، وهو ما يعني الوصولَ بالجسد والروح إلى حالةِ الإنهاك والتشظِّي، ليتساءل بينه وبينَ ذاته (المسخ): “رباهُ كيف بدوت في هذا الحطام؟!”. ليصلَ إلى خاتمة معركته دون أن يحقق انتصاراً، فينكفئُ إلى داخله مفضلاً العزلة والوحدة والبُعد عن الرفيقِ والطريق، منتظراً مستجدات الزمنِ وإلى أين سيمضي قطار العمرِ والذكريات (المسخ): “فأعود أغلق باب غرفة عزلتي فهي البداية للحقيقةِ والختام!” الحياةُ معركة يخوضها الإنسان، وعليه اختيارَ كيفية مواجهتها، عبر طرحِ الأسئلة المصيرية، الباعثةِ على تلافي الهزائم والانكسارات؛ من أجلِ تفادي الوجع الناجمِ عن استهلاك الجسدِ والروح، نتيجةَ العبث والتشتت والضياعِ وعدم القدرة على تحديدِ الاتجاه.
