 
          في هذا الكتاب تاريخ وأدب، ثقافة وعلم، مؤانسة وإفادة، ولا غرو فقد جمع بين دفتيه أعلامًا ذوي اهتمامات متنوعة. عنوان الكتاب المشار إليه آنفًا: حاورت هؤلاء: سجالات في الثقافة والأدب، تأليف: سهم بن ضاوي الدعجاني، تقديم الأستاذ خالد بن حمد المالك، رئيس تحرير صحيفة الجزيرة. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام (1447=2025م)، ويقع في (235) صفحة، ويشتمل على حوارات مع ثمانية عشر شخصية علمية جلّهم من المملكة أو من العرب الذين عملوا فيها. ابتدأ الكتاب بالإهداء من مؤلفه لمعالي الدكتور إبراهيم العواجي، فهو صاحب المنصب الرفيع، والمجلس المفتوح، والمشاركات الثقافية والشعرية. ثم كتب الأستاذ خالد المالك تقديمًا لهذه الحوارات التي أحسن مؤلفها الاستعداد لها، ووفق لجمعها في كتاب واحد يحميها من الشتات. وقد أكد أبو بشار -ولا ينبئك مثل خبير- أن هذه الحوارا تخلو من الملل، واعتمد المحاور فيها على دراسة عميقة لمن حاورهم، ومعرفة بمكامن التميز لديهم؛ فجاءت الإجابات شاملة وموثقة. إن هذا الكتاب كما قال الأستاذ المالك مخزون ثقافي، ورصد أمين لشيء من تاريخنا الثقافي. في هذا الكتاب تغذية للمكتبة السعودية، وإثراء للثقافة المحلية، مثلما ذكر مؤلفه الذي أسهم من خلال عطائه المكتوب والمنبري بسهم صائب غير طائش، لا يصيب في مقتل، وإنما يشير إلى مواضع حقيقة بالإجلال والنظر إليها بالتقدير والنهل، وقد أسهم “سهم” بسهم فأحسن ونفع. أما ترتيب الحوارات فوقع حسب أقدمية النشر، علمًا أنها نشرت في مجلات وصحف على رأسها المجلة العربية، وصحيفة الجزيرة. سوف يلاحظ القارئ أن بعض الأسئلة تكررت مع عدة ضيوف، وهذا يمثل إطلالة على جانب تأريخي مهم. أول حوار كان مع المربي عثمان الصالح الذي قال بأن الوظيفة والأعمال امتصت عقولًا لو تفرغت لعاد لنا المجد العلمي! وأثنى الشيخ على إذاعة القرآن الكريم، وعلى كتاب جواهر الأدب الذي فاز بالأولية في تاريخ قراءاته. تلاه الحوار الثاني مع د.أحمد البهكلي الذي يوجب على الشاعر جعل قصيدته بعيدة عن كونها ظلًا لعمل آخر، وبجرأة تحمد له جزم بأن اختفاء الوزن الشعري من القصيدة سيخفي معه جلّ هوية هذه الأمة، ويضع للشعر ضوابطَ منها العاطفة، والصدق، واللغة، والوزن. أما الأستاذ راضي صدّوق فيعلن بحسرة أنه يقرأ شعرًا وما هو بشعر، ونثرًا وما هو بنثر، ونقدًا وحاشا أن يكون نقدًا، وينفي التشاؤم عن نفسه معلّلًا رأيه بأننا أبناء أرض عربية واضحة مقروءة الملامح صافية السماء فمن أين جاء الكتّاب والشعراء بهذا الغموض المرذول؟! ويكمل بما يفهم منه اختفاء نقاد الشعر، وغياب أسلوب البيان العربي، وأنه يستطيع ردّ أكثر أفكار كتّاب الصف الأول في العالم العربي وكتاباتهم إلى أصولها الأجنبية. هو لا يعمم، والبلاء الذي كشفه بصراحة واقع مشاهد، وأخشى أن يستشري في زمن السرعة، والضحالة، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي. وفي حوار رابع أعلن د.ناصر الرّشيد أن الحداثة في مجتمعنا مجرد طرح شعاراتي لا علمي، وهذا التوصيف منه يصدق على أشياء كثيرة “تعجعج” بها الساحة وهي على التحقيق لا شيء. ويشيد الرشيد بالرواية التي يرع فيها السعوديون متوقعًا لها الانتشار. وقد ضمت هذه الحوارات لقاء مع رجل الأعمال الشيخ عبداللطيف البابطين الذي حمل عبء ملاحقة المخطوطات العربية واسترجاعها بالشراء مهما بالغوا في أسعارها، وإيداعها في مركز ثقافي شيّده لهذا الغرض. وهذا نوع من “العشق” عبّر عنه أ.محمد المفرجي الذي اعترف غير نادم بأنه منذ طفولته أغمض عيونه عن كل شيء، وفتحها على عشق الأدب والثقافة. وفي حوار مع الشيخ الأديب عبدالله بن خميس وردت مطالباته القديمة بإنشاء وزارة للثقافة، ومجمع لغوي سعودي، وعنايته ببلدان ومواضع المملكة والجزير العربية خاصة جبل طويق. وللشيخ أحمد المبارك تاريخ مبكر مع القراءة والابتعاث والإذاعة، حتى أنه ألقى كلمة عن الملك عبدالعزيز من إذاعة لندن ومن إذاعة مصر، وحرص أهله في الأحساء على الاستماع إليهما، وراق لهم أنه استهل كلمته بالسلام وليس بالجملة المترجمة الباهتة “سيداتي سادتي”. ويؤكد د.محمد الدبل أن الأدب يعالج كثيرًا من القضايا، وأن الفصحى وتخصص البلاغة لهما مكانة وأهمية، ولا مناص من العناية بهما. ثمّ ينقلنا الكتاب إلى الحوار مع الأديب الفريق يحيى المعلمي الذي يحث على حصر الخصومة الأدبية في مجالها كي لا تتحول إلى خصومات شخصية، ومع أنه يقرأ الشعر العامي أحسن من بعض شعرائه، إلّا أنه لا يرتاح للمساحة الواسعة الممنوحة له في إعلامنا. وغاصت بنا الحوارات مع الفقيه الموسوعي والمعجمي د.محمد رواس قلعجي، وهو مؤلف غزير الإنتاج، بفعل عوامل عددّها منها البطاقات العلمية التي يمتلكها من جهده وتدوينه، إضافة لقدرته على الكتابة المباشرة دون أخطاء تلجئه للمراجعة. ويصف د.أحمد الضبيب بلادنا بأنها جنة التراث العربي القديم، ويرى أن حضور المرأة المثقفة لا يقاس بوجودها في الصحف والمجلات. وفي الحوار مع الشيخ حمد الجاسر ثناء على الأديب الأستاذ حمد القاضي بما يستحقه، ورأي للجاسر خلاصته أن الأنساب لا تقوم على أساس علمي وإنما على المتوارث داخل الأسر، ويضيف بأن كل من في نجد يرجعون لأصول عربية، ويقرر أنه لا فائدة من التحقيقات البلدانية إذا لم ترتبط بحياة الأمة قديمًا وحديثًا. إن “الجغرافيا” مسرح كبير للتاريخ والحضارة، ولا مناص من تشابك هذه العلوم مع بعضها. ومن ضمن الحوارات حوار مع الشيخ عبدالله بن منيع، ذهب جلّه للمصرفية الشرعية، والفتوى. كما صرح د.حسن الهويمل بأن القراءة لديه تحولت من هواية إلى إدمان، ويؤكد بأن المعارك الأدبية لن تهدأ، وتحدث عن مكتبته التي تعب في تكوينها ثم خدمته في عمله وهو الذي يعيش مع الكلمة، وخُتم الجزء الثاني من الحوار معه بقول محكم نفيس هو: “ليس من مصلحة المشهد الثقافي أن تصفى الخلافات بالتنازلات، بل باستبانة الحق والرجوع إليه”. وتحدث الشيخ عبدالله بن إدريس عن افتتاحيات مجلة الدعوة التي أذيعت أجزاء منها في عدة إذاعات عربية؛ لأنه وهو رئيس تحريرها يكتب بجرأة حكيمة حسب وجهة نظر الشيخ جميل الحجيلان وزير الإعلام حينها. وفي الحوار السابق للأخير كتب د.محمد الرّبيع أن “الحق والإنصاف وتحري الدقة صفات مطلوبة في كل من يتصدر لقيادة العمل الثقافي والفكري”، وانتهت حوارات الكتاب بحوار مع.دعبدالعزيز الخويطر أبان فيه أنه يشعر كلما طال به الزمن، وزادت معالجته للأمور، بحاجته إلى مزيد من العلم والمشورة والتجربة. وأوضح أن نصوص التراث تشغله، وأن مؤلفاته حصيلة أربعين عامًا من التكوين، وأن ميزان الكتابة والنشر لديه هو إفادة القارئ. الحقيقة أني استمتعت واستفدت من قراءة هذا الكتاب داعيًا بالرحمة للراحلين، وبالسعادة للباقين. إن كتب الحوارات المتقنة تختصر لقارئها الكثير، وتوقفه على لُباب من الرأي، وخلاصة من القول، وجملة من الحقائق والوقائع، إضافة إلى رصد صريح أو ضمني للتاريخ وأحداثه. يضاف لذلك أنها جزء من سيرة المحاوِر والمحاوَر، ومن سيرة المشهد الثقافي الذي ينتميان إليه، وآمل ألّا تنتهي الحوارات الجادة النافعة بأي شكل، وأن تحفظ للأجيال بأي وعاء آمن.
