المعاناة والرمز.

المعاناة ليست حدثًا عابرًا في حياةِ الإنسان، بل هي تجربة وجودية تُثقل الروح بما لا يُحتمل، وتعجز اللغة المباشرة عن وصفها، تظل تتردّد في الداخل كصدى مغلق، فتتحول إلى جدارٍ يحاصر النفس. في هذه اللحظات، يصبح الإنسان في حاجة إلى «لغة أخرى» تُخرجه من دائرة الصمت. لغة لا تنطق بالكلمات المباشرة، بل تستعير صورًا ورموزًا تحمل الأعباء نيابة عنها. والرمز في هذا المعنى ليس ترفًا جماليًا، بل ضرورة روحية ونفسية. فما لا يُفصح عنه بالقول الصريح، يُسقَط على رمزٍ خارجي، كما في رواية باتريك زوسكيند «العطر: قصة قاتل» التي صوّرت معاناة المرأة واستغلال جسدها في الإعلانات التجارية برمزية العطر والروائح، ورمزية قوة العطر في خداع الجماهير، والوهم الاجتماعي الذي يحجب الحقيقة... أو أنْ يجد من يشاركه العبء والمعاناة، كالحمداني الذي لم يكن يخاطب حمامة وحسب، بل كان يحلم في يقظته بأنْ يجد صدى لألمه في صوتها. أقولُ: وقَد ناحت بقـــــــــربي حمامةٌ أيا جارتا، هل تَشعُرينَ بِحالي؟ أَيا جارتا، ما أنصَفَ الدَهُـر بَينَنا تَعالي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالي هو شكل من أشكال الإبداع الفني يسمى بـ «الإسقاط الرمزي»، حيث يعثر الكاتب في الخارج على صورة لنقل معاناة الإنسان، أو صورة لألمه الداخلي. والرمز -هنا- لا يكتفي بنقل المعاناة وحسب، بل يعيد تشكيلها في صورة يمكن احتمالها؛ لتصبح أكثر قابلية للتأمل، وأقل فتكًا بالنفس. فالفنّ بمختلف أنواعه هو مسرح لتمثيل ما لا يمكن احتماله في الحياة الواقعية. فكل إبداع هو أثر من آثار المعاناة، لكنه أثر متحوِّل، يُعيد صياغة المعاناة بلغة قادرة على منحها معنى، أو على الأقل على تجميل قسوتها. ولعل الثقافة -ذاتها- هي شبكة معقدة من الرموز التي نشأت استجابة لمعاناة وجودية، أو جماعية. فالأساطير والخرافات ليست إلا محاولة لترويض الخوف من المجهول، والطقوس والعادات والطباع الاجتماعية ليست إلا لغة جماعية لحمل المعاناة والأعباء المشتركة. فالإنسان إذا عجزَ عن تسميةِ آلامه، ومخاوفه، ابتكرَ رمزًا جديدًا، علامةً تحفظ للتجربة أثرها وتحولها إلى مادة للذاكرة الجمعية. إنَّ المعاناة التي لا تُقال، لا تموت، إنَّها تتخذُ أشكالًا أخرى للتعبير عنها، ربما خرافة، أو أسطورة، أو عادة وطقس اجتماعي. وربما قصيدة، أو قصة، أو رواية، أو حكاية، أو لوحة مرسومة، أو موسيقى... لأنَّها تسمح بأنْ تبوح بما لا يمكن بوحه لأحد.