ولدورة الأيام أنياب.

“الساعةُ ليست مجرّد ساعة، بل هي إناءٌ مملوءٌ بالعطور، والأصوات، والمشاريع، والمناخات.” - مقولة لبروست يبدو أنه يعيد ترتيب علاقتنا بالزمن إذا كان ما قاله بمثابة نافذة نشاهد من خلالها الوقت كـ فن.. لا كعدّاد أو على نحو وعاء تأوي إليه فصول كاملة وكثافة شعورية ومخزن ذكريات - في موضع آخر يتضح أن للساعة منظور مغاير بالتحديد ساعة الحائط جليسنا الذي لا يكف عن الثرثرة فلنقرأ هذه الصـــورة.. لا أبالغ لو قلت بأنها أربكتني بشكل رهيب: “ساعة الحائط، أشدّ الحيوانات الأليفة ضراوة. أعرف واحدة -من قبل- التهمت ثلاثة أجيال من عائلتي”. يا لهول ما صرّح به! النص للشاعر البرازيلي من أصول برتغالية ماريو كوينتانا، يُعدّ من أبرز الأصوات الشعرية يُلقَّب بـ شاعر البساطة يكتب بلغة يومية خفيــفة لكن محمَّلة بعمق فلسفي وتأمّلي. إذن ومن خلال هذه اللوحة يظهر أننا لا نسكن بيوتًا بقدر ما نقيم بأفواه ساعاتٍ جائعة - عودة لهذا الكائن الذي لا يكف عن النباح آلة جز واجترار.. لطالما محى أجيالًا كاملة من الحضور والذاكرة الظاهر أنني علقت في نص كوينتانا وهناك جوانب أخرى لهذا الحارس المرابط على الجدار مهما تباينت أبعاده يبقى ما ذكره ماريو من أبلغ ما قيل في حق الساعة - “وتأكلُنا أيّامُنا فكأنّما تمرُّ بنا الساعاتُ وهي أُسودُ” صورة مجازية أخرى.. قريبة لساعة كوينتانا من لزوميات المعري بالتأكيد يبدو نتغافل وزعم يحدونا أننا أسياد الزمن ولدورة الأيام أنياب فلنعِ ذلك كما أن لنا في المقابل على الأيام ثقل وإساءة وعقوق… بيان ينبغي إعلانه بالرغم من ذلك لا نراه يشي أو يشتكي.. - “الوقت هذا المهرول الأزلي؛ المسكين تحالفت الساعات كلها على أن تعمل” نص قديم لكاتبة هذه السطور تذكرته في إطار ما تحدثنا به من خلاله يتضح أنني تحاملت وما زلت ولي مع الساعات ماضٍ متعب كما لغيري فصول معاناة وأرق وانتطار - تحت عنوان تشخيص الحضارة في صياد القصص كتب الأوروغواني الممتع إدواردو غاليانو: في مكان ما من إحدى الغابات، علّق أحدهم: كم هم غريبو الأطوار هؤلاء المتحضرون. جميعهم لديهم ساعات ولا وقت لدى أيّ منهم! صدق ساكن الغابة، (السعيد) ذاك غاب عنه حياة الحضر، واللهاث ما قاله غاليانو صفعة ناعمة، ليس المهم أن نُمسك بالزمن على معصمنا، بل أن نحياه في أعماقنا مفارقة أن تمتلك الأشياء وتفقد معناها أن نحمل الساعات ولا نملك وقتًا أن نعيش في حضارة تُقنن كل شيء إلا الحياة نفسها - “قبل ألف عام كانت خمس دقائق تساوي: أربعين أوقية من الرمال الناعمة”. اقتباس فريد ومختلف عما دار هنا للكاتب الروسي الأمريكي المبدع فلاديمير نابوكوف لا بأس لو حوّلنا المسار هو لا يقيس الوقت بشكل مجرد بل يربطه بوزن ملموس أربعين أوقية من الرمال الناعمة. إنها مقاربة حسية، تجعل القارئ يشعر بالوقت كما لو كان مادة قيِّمة، شيء يمكن أن يُلمس ويُوزن - الساعة ساعة، لا فرق سواء تدحرجت حبات الرمل أو دارت عقاربها باستثناء أن الساعة الرملية تطحن عمرك دون جعجعة - قيل: “الوقت يتدفّق بنفس الطريقة لجميع البشر والإنسان ينساب عبر الزمن بطرق مختلفة”. بمعنى أن لغة الوقت مع البشر واحدة بينما للبشر معه لغات أبخسها تلك التي تبقيه على ما هو عليه من هذر وضلال - وأخيرًا فلنقرأ هذه العبارة يقال بأنها للحســن البصري: “يا ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك” مقولة أشبه ما تكون بجرس تنبيه: «إنما أنت أيام» كأننا لسنا سوى حصيلة هذه الأيام المتتابعة. نحن زمن يتناقص. وكل يوم ينقضي يأخذ جزءً منا معـــه تمامًا كما تفعل الساعة؛ سواء كانت رملية تتساقط حباتها في صمت أو عادية تدق عقاربها ببرود. - * كاتبة سورية، تقيم باسطنبول