كيف جُعلتْ أستراليا منفى للمجرمين؟

تسير في شوارع “سيدني” وكأنك في “نيويورك” تارةً وفي “لندن” تارةً أخرى، وفي واقع الأمر، فإن أوجه الشّبه بين أستراليا عموماً وبين “أمريكا” أكثر مما بينها وبين “إنجلترا”.. فأستراليا مثل أمريكا، نشأتْ على أطراف الحضارة الأوروبية، وهي مثلها قامت على أكتاف المُهاجرين من أوروبا، وقد كانت مثل أمريكا مُستعمَرةً بريطانية، ثم كسرتْ القيد وشبّتْ عن الطوق. ولكن شتّان بين الهِجرتين، فالأوروبيون الذين نزحوا إلى أمريكا، كانوا في الغالب، رجالاً ونساءً ذوي عقيدة ومباديء؛ فرّوا بدينهم من الاضطهاد، أو سعياً وراء العيش الكريم، أما هؤلاء فكان لهُم شأنٌ آخر. في عام 1770 رسَتْ سفينة البحّار والمُستكشف الإنجليزي “كابتن كوك” في خليجٍ واسع، في الطرف الجنوبي الشرقي لأستراليا، وهُناك غرز العلَم البريطاني، وأسمى ذلك المكان: “ويلز الجنوبية الجديدة”. ولكن الإنجليز لم يأبهوا بأستراليا ولم يلتفتوا إليها، إلا بعد أن ضاعت مُستعمراتهم الأمريكية بعد حرب التحرير، وأدركوا أنهم بضياع تلك المستعمرات ما عادوا يجدون أرضاً ينفون إليها الفائض من المجرمين، الذين ضاقت سجونهم عنهم، وبدا لهم أن تلك الأرض البعيدة تصلح لذلك الغرض. وأعلن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك “وليَم بِتْ” في البرلمان؛ أن النفي إلى أستراليا هو أنجع وسيلة وأرخصها للتّخلّص من أولئك المجرمين. وهكذا، في عام 1788 أبحر أسطولٌ مكوّن من إحدى عشرة سفينة، تحمل ألفاً وثلاثين سجيناً، وبعد رحلة دامت ثمانية أشهر، ألقتْ السّفن مراسيها على شاطيء المستعمرة الجديدة. وكما يحدث دائماً، فإن الظُّلم يولّد الظُّلم، والعُنف يُنبت العُنف؛ بعد ذلك وحين آل الأمر إلى هؤلاء المجرمين المُضطَهَدين، أوقعوا هُم بدورهم الظُّلم والاضطهاد على سُكّان البلاد الأصليين “الأبورجنيز” Aborigines المُسالمين، الذين عاشوا في تلك الأصقاع قروناً على الفِطرة، في غفلةٍ عمّا تُخبّئه لهُم الأقدار. ذهب “لاخلان ماكوري” حاكماً عامّاً على المستعمرة الجديدة في عام 1809، ولمّا أنهى مُهمّته عام 1821، كان قد نجح بمقاييس النظام الاستعماري نجاحاً جعل “تشارلز داروين”، صاحب نظرية “النشوء والتطوّر” يقول حين زار سيدني عام 1836: “كوسيلةٍ لجعل الناس فُضَلاء، لإعادة تأهيلهم من شِرذمةٍ مُنحطّة لا يُرجى منهم خير في جُزءٍ من العالّم، إلى مواطنين صالحين في جُزءٍ آخر، وبهذا نُنشيء بلداً جديداً رائعاً، ومركزاً مُضيئاً للحضارة، فقد نجحت التجربة بدرجةٍ لا مثيل لها في التاريخ”! ومن أعجب ما سجّله التاريخ من أقوال المستوطنين البيض في أستراليا، عبارةً لرجلٍ يُدعى “سي. لوكهارت”، قالها في عام 1849: “لا شيء سوف يحول دون انقراض عُنصر الأبورجينيز، الذين شاءت الإرادة الإلهية أن تسمح لهُم بالاحتفاظ بالأرض، ريثما يجيء عنصرٌ أفضل يحلّ محلّهم”!! هذا الرجل المغمور الذي لم ينسب له التاريخ عملاً يؤْثر، استحقّ “الخلود”، وإن كان خُلوداً خيرٌ منه النسيان.. إنه عبّر بدون مواربة، ودون حياء، عن مُبرّر أساسي من مُبرّرات الاستعمار الأوروبي، وهو أن الأجناس غير الأوروبية؛ “الهمَج” في زعمهم، ليسوا بشراً بمفهومهم للكلمة، ويُمكن اعتبارهم غير موجودين، وأن الحيّز الذي يشغلونه على سطح الأرض، هو في الحقيقة خالٍ من السُكّان! ويُمكن أن يسمع الإنسان صدى عبارة “لوكهارت” في عبارة “جولدا مائير”، بعد أكثر من قرنٍ من الزمان: “الفلسطينيون؟ أين هُم الفلسطينيون”!؟ ولكن هناك رجالٌ شُرَفاء، دافعوا بشجاعة عن حُقوق الشعوب المغلوبة على أمرها، وكانوا في أحيانٍ كثيرة يقفون في وجه تيّار قويّ مُناهضٍ لهُم. ومنهم البروفيسور “في. جي. كيرنان”، أستاذ التاريخ في جامعة “أدنبره”، الذي كان من العُلماء الأوائل في أوروبا، الذين دمغوا بأسلوبٍ عميق مؤثّر، الوحشيّة التي أظهرها الأوربيون في فرض نفوذهم على شعوب آسيا وإفريقيا والأمريكيتين. يقول البروفيسور “كيرنان” في كتابه “سادة الجنس البشَري” في عام 1969، في الفصل عن شعب الأبورجنيز في أستراليا: “إن الاعتقاد بأن ما يُسمّى بالشعوب المُتخلّفة لن تستطيع أن تستجيب لمُتطلّبات الحضارة ولا سبيل أمامها إلا الانقراض، كان اعتقاداً شائعاً لدى كثيرين من طلائع الاستعمار الأوروبي، ولم يكُن بين قبول هذا الافتراض، والتعجيل بذهاب تلك الشعوب إلى العالَم الآخر، إلا خطوة قصيرة.. هذا ما حدث في جزيرة “تسمانيا” بأستراليا بشكلٍ لم يسبق له مثيل، منذ أن فتكتْ جحافل الأسبان بجُزر الكاريبي..”.