
منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1351هـ (1932م)، شكّلت الوحدة الوطنية الركيزة الأساسية التي نهض عليها هذا الكيان الكبير. وبرغم اتساع الجغرافيا وتعدد البيئات والعادات واللهجات، استطاعت المملكة أن تحتضن هذا التنوع وتحوله إلى مصدر قوة، لا إلى سبب انقسام. ومع مرور 95 عامًا، يتجدد الحديث عن هذه الوحدة بوصفها أعظم منجز وطني، وأصدق تعبير عن معنى الانتماء. لقد جاء التأسيس على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- ليضع اللبنات الأولى لدولة موحدة، تجمع بين نجد والحجاز والشرقية والجنوب والشمال تحت راية واحدة. لم يكن التحدي مجرد توحيد جغرافي، بل كان توحيدًا للقلوب والعزائم، وصياغة لهوية جامعة تتجاوز الانتماءات الضيقة نحو الانتماء الأكبر: الوطن. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، واصلت المملكة مسيرتها بخطى ثابتة، واضعة الوحدة الوطنية في قلب مشروعها السياسي والاجتماعي، مدركة أن أي نهضة اقتصادية أو حضارية لا يمكن أن تقوم دون تماسك المجتمع خلف قيادة واحدة. ومع تعاقب العقود، أصبحت المملكة نموذجًا عالميًا في إدارة التنوع الاجتماعي والثقافي. فاللهجات المحلية، والأزياء التقليدية، والفنون الشعبية، والألوان الموروثة من عمق الجزيرة العربية، كلها تعيش في تناغم داخل الهوية السعودية الجامعة، حيث ينظر إليها كجزء من ثراء وطني يعزز الفخر والانتماء. بل إن هذه التعددية باتت عنصرًا مهمًا في تعزيز مكانة المملكة دوليًا، من خلال الفعاليات الثقافية والمهرجانات التي تعرض للعالم صورة وطن متماسك في حاضره، فخور بجذوره، منفتح على مستقبله. ولا تقتصر الوحدة الوطنية على بعدها الرمزي، بل إنها اليوم تتجسد في برامج ومشاريع تنموية ضمن رؤية السعودية 2030. فمشاريع مثل موسم الرياض وموسم جدة، والجنادرية سابقًا، وصولًا إلى إدراج العرضة السعودية والمجلس والقهوة العربية على قوائم التراث الإنساني في اليونسكو، جميعها تعكس كيف تحوّل التنوع الثقافي إلى قوة ناعمة تؤكد مكانة المملكة عالميًا. وفي المقابل، فإن التنمية الاقتصادية الكبرى – من «نيوم» إلى «القدية» ومشاريع السياحة – لم تغفل عن إبراز مكونات الهوية الوطنية، بل وضعتها في قلب رسالتها للعالم. إن سر نجاح المملكة في الحفاظ على وحدتها الوطنية رغم اتساعها الجغرافي، يكمن في القيم التي تأسست عليها: العقيدة الراسخة، والانتماء الصادق، والولاء للقيادة. هذه القيم ضمنت أن يكون التنوع عامل إثراء لا فرقة، وأن تبقى الراية السعودية خفاقة فوق الجميع. والدليل على ذلك المشاركة المجتمعية التي باتت ملمحًا أساسيًا في المناسبات الوطنية، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد المتطوعين في المملكة تجاوز 700 ألف متطوع بحلول عام 2023، مما يعكس وعيًا متناميًا بدور الفرد في خدمة المجتمع وتعزيز وحدته. ولعل المناسبات الوطنية، وفي مقدمتها اليوم الوطني، هي أبرز شاهد على هذا التلاحم. ففي مثل هذه الأيام، تتجسد الوحدة عمليًا في مشاهد الفرح والفخر التي توحد المواطنين والمقيمين دون استثناء، حيث ترتفع الأعلام ذاتها وتردد الأهازيج ذاتها في كل مدينة وقرية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وليس الاحتفال هنا مجرد طقس اجتماعي، بل هو رسالة تتجدد سنويًا بأن الهوية الوطنية أقوى من أي اختلاف، وأن الولاء للوطن والقيادة هو القاسم المشترك الذي يجمع الجميع. لكن الوحدة الوطنية ليست حدثًا مضى، بل هي مشروع مستمر يتجدد عبر الأجيال. ومع انفتاح المملكة على العالم في مجالات السياحة والاستثمار والثقافة، تبرز الحاجة إلى مزيد من الوعي بدور الهوية الوطنية الجامعة في تحصين المجتمع من التحديات الفكرية والثقافية العصرية. وهو ما تعمل عليه مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة من خلال مبادرات تستهدف الأجيال الصاعدة، لتؤكد أن اعتزازهم بتاريخهم وتنوعهم هو مفتاح مشاركتهم الفاعلة في بناء المستقبل. وبين الماضي والحاضر، تبقى المملكة شاهدة على أن وحدتها الوطنية هي أساس قوتها، وأن احتضان التنوع لم يكن يومًا ضعفًا، بل سرًا من أسرار تماسكها ونهضتها. وفي ذكرى 95 عامًا من الوحدة، يزداد الفخر بأن هذه الأرض الطيبة كانت وما زالت وطنًا واحدًا لشعب واحد، مهما اختلفت لهجاته وأزياؤه وعاداته، يظل يجتمع تحت راية واحدة لا إله إلا الله محمد رسول الله.