فنّ التخلّي!

بدءا من عتبة العنوان الرئيس في مجموعتي عبد الله ناصر القصصية يلحظ القارئ أنه بإزاء كاتب مبدع لا يخطو على السطور بطريقة تقليدية ولا برتابة قد ينطفئ بها وهج السرد، فكلا العنوانين: فن التخلي والعالق في يوم أحد، يحيلان إلى ما تنتظم به كل مجموعة من رابط يسري في السرد الممتد بين القصص التي تتناول اليومي والمعيش في أحداث ليست رتيبة.  فالسرد مسكون بالحيوية والمفارقات والدخول من أبواب متفرقة إلى عالم القص، والأهم من ذلك الخروج منه بمفارقة بديعة تشعر قارئ النص أنه نفذ من بوابة اللغة إلى الواقع مثلما دخل بذات الطريقة التي منحت السرد مذاقاته بين التجسيد والتجريد. وتبدو الشخوص، في هذا الأفق، كائنات لغوية كما هي كائنات واقعية تأتي من الواقع، فتقرأ مثلا في فن التخلي، القصة التي تحمل عنوان المجموعة الأولى، كيف يجمع البطل الأحداث وكأنما يجمع فتات الأوقات التي صنعت كل المواعيد، ثم يعود بها القهقرى إلى لحظة الصفر، إلى أن تدخل في العدم بعد أن كانت في حيّز الوجود، لتصبح الذكريات الجميلة مجرد ذكرى لم تحدث، وهنا مفارقة تحيل الزمن إلى خلاء تام عبر العود إلى زمن البدء. وعلى هذا النسق، أو هذه الطريقة المقلوبة التي تجرّد الزمن لتخليه من الأحداث التي وقعت أو كانت ستقع، نقرأ عددا من نصوص المجموعة في محاولة لإخلاء الزمن من موجوداته، ليظل على امتداده وكأنه حبل غسيل خالٍ من كلّ حدث مبتلّ، ومن كل الأحداث التي علقت به يوما ما. تلحظ ذلك حتى في عربة التسوق التي تحمل «الحقائب فارغة من السفر، والشبابيك مفتوحة بلا ابنة الجيران، والكمان مجوّفا من عروض الباليه، والشموع مضيئة بلا أعياد الميلاد، والكعك خاليا من البهجة، والبنادق محشوّة بلا أمجاد، واللون الأحمر منقوصًا مارلين مونرو». وكأن الكاتب، بسرده الخارج عن مألوف المنطق الواقعي، يترصّد كل الأحداث التي وقعت بمهارة أنيقة هي فنّ التخلي، بدءا من الشخوص التي لا يحرص على رسم وجوهها وملامحها الحسية، لأنها بلا أسماء ولا صفات، وانتهاء بالأحداث والأشياء المتداخلة بإتقان، فليس سوى حركة السرد الممتدة وضمير الغائب الحاضر في عمق الحدث. ** إن ما يميز القصص عند عبد الله ناصر حبكتها غير التقليدية؛ فهو لا يضع عقدة وحلا؛ كما في القصة القصيرة الكلاسيكية، لأن قصصه شديدة الكثافة لا تتسع لمثل هذا الإجراء الفني، بل يصنع حبكته من تداخل المحسوس والمجرد، واللغة والواقع، والمنطقي وغير المنطقي، يصنع ذلك كله في بناء مفارقات مدهشة تمنح السرد روحه ومتعته وشعريّته التي تبلغ ذروتها في النهاية حيث تكون المفارقة في لحظة الخروج من النص. تقرأ بصمة سردية خاصة سواء في (فن التخلي) أو في (العالق في يوم أحد)، ولكل مجموعة سمتها الخاصة أيضا، لكنها كلها تجتمع في موضوع الزمن بين تجسيده في أحداث أو تجريده في شعور تستخلصه لغة السرد؛ فيبدو إخلاء الزمن من تراكم الأحداث هو قيمة فن التخلي المهيمنة، في حين تبدو المجموعة الثانية مهمومة بالتماثل: تماثل الأشياء، وتماثل الإيقاع في رتابته الزمنية المكرورة بدءا من المتواليات الرقمية إلى الأيام المتشابهة إلى القلق من انشطار الذات في هذا التماثل بين الكاتب والسارد العالق في يوم أحد، هذا العلوق الذي يجعله غير قادر على التقدّم خطوة واحدة إلى يوم الإثنين، فالتماثل يجعل كل أيام الأسبوع آحاد متوالية من الأرقام.