السرد العربي… قوة ناعمة تعبر من الماضي إلى المستقبل.

منذ فجر التاريخ، ارتبط السرد بالوجود الإنساني ارتباطًا وثيقًا، فكان أسبق من الحرف والكتابة، وأداةً أولى صاغ بها الإنسان وعيه بالعالم، وأعاد من خلالها ترتيب علاقته بالزمن والمكان. لم تكن الحكاية ترفًا عابرًا أو تسليةً لتمضية الوقت، بل كانت وسيلة لتفسير المجهول، وحفظ التجربة الجمعية، وتثبيت القيم. وعلى امتداد الجغرافيا العربية، من رمال الجزيرة إلى وديان الشام وواحات الرافدين، ظلّ المجلس هو الفضاء الثقافي الأبرز، حيث يتلاقى الصوت بالذاكرة، ويغدو الراوي حاملًا للهوية الجماعية، وأرشيفًا حيًّا تحفظه الصدور قبل السطور. في البادية، لم يكن الحكّاء مجرد راوٍ للتسلية، بل مؤرخًا غير رسمي، نسج من قصائد المعلّقات وأخبار الأيام وسِيَر الأبطال دستورًا غير مكتوب، ينظّم حياة القبيلة ويمنحها معايير البطولة والكرم والوفاء. ومن خلاله تعلّم الصغار الشجاعة والكرم، وتوارثوا الحكمة عبر أمثال تختصر التجربة في جملة قصيرة لكنها باقية الأثر. لقد تحولت الحكاية الشفهية إلى منظومة قيمية متكاملة، تمزج بين التثقيف والإمتاع، وبين تثبيت الهوية وصناعة المخيال الجمعي. ومع تواصل طرق التجارة واتساع حركة القوافل، لم تبقَ الحكاية حبيسة البادية أو المجلس، بل انفتحت على المؤثرات الخارجية. فقد تسللت الأساطير القادمة من الهند وفارس واليونان إلى المخيال الشعبي العربي، وصيغت بلغة العرب وروحهم، لتولد نصوص مثل ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسندباد. لم تكن هذه القصص مجرد متعة، بل تجلٍّ لقدرة الثقافة العربية على التفاعل مع الآخر وإعادة إنتاجه بهوية جديدة. الأسطورة هنا لم تكن نقيضًا للعقل، بل وسيلة رمزية لفهم ما يتجاوز الإدراك، ولإضفاء معنى على عالم غامض، فيما غدت الحكاية جسرًا يربط الواقع بالخيال، والتجربة بالرمز. ومع انتشار التدوين في الحضارة الإسلامية، دخل السرد مرحلة مفصلية، إذ تحولت الكلمة من صوت يتلاشى في الهواء إلى نص يُحفظ في الورق، قابل للانتقال بين الأجيال. فالمقامات عند بديع الزمان الهمذاني والحريري لم تكن مجرد ألعاب بلاغية، بل إعادة صياغة للحكاية الشعبية في إطار أدبي رفيع، يجمع بين الترفيه والحكمة، وبين الفن والتوثيق. وأدب الرحلات، مثل رحلة ابن جبير وابن بطوطة، مثّل فتحًا جديدًا للسرد العربي، حيث امتزجت الدهشة بالواقع، وتحول الطريق إلى نصٍّ أدبي يصف الجغرافيا ويستبطن التجربة الإنسانية في آن. هذه المرحلة رسّخت للسرد مكانة ثقافية جديدة، من فنٍّ شفهي عابر إلى نصٍّ مكتوب خالد. ومع دخول القرن العشرين، برز شكل جديد للسرد العربي، قائم على الصورة والتمثيل: السينما والدراما التلفزيونية. لم تعد الحكاية مقصورة على المجلس أو الورق، بل صارت صناعة ثقافية كبرى توظف الموسيقى والمشهد والحوار. فالسينما العربية صاغت قصص المجتمع على الشاشة، وعكست الدراما الخليجية والسعودية ملامح الحياة المحلية، لتعيد تشكيل الذاكرة الشعبية في قالب بصري حديث. ثم جاءت المنصات الرقمية لتفتح السرد على فضاء عالمي بلا حدود، حيث أصبحت الحكاية العربية حاضرة أمام جمهور متعدد الثقافات، يتفاعل معها بلغات جديدة ورؤى متنوعة. ورغم تنوّع الوسائط، ظل الخيط الناظم واحدًا: حاجة الإنسان الدائمة لأن يحكي ويسمع، وأن يجد في القصة عزاءً ومعنى. فالسرد العربي الحديث لم ينفصل عن جذوره، إذ ما تزال قصص البادية وأهازيج القرى وأمثال الأجداد تتردد في الروايات والسيناريوهات والدراما. ليست هذه استعادة للماضي بقدر ما هي إعادة صياغة له بما يلائم الحاضر، فالحكاية في جوهرها ذاكرة متجددة تعكس هوية الجماعة، وتمنحها القدرة على تعريف نفسها عبر الأزمنة. وهنا تتجلى رؤية المملكة 2030 بما حملته من منجزات ثقافية غير مسبوقة أعادت الاعتبار للحكاية والسرد بوصفهما قوة ناعمة. فقد أطلقت المملكة مبادرات نوعية مثل عام الخط العربي، الذي أبرز الصلة العميقة بين الحرف والهوية، ومشروع الدرعية الذي جعل من المكان ذاكرة ناطقة بقصة الدولة الأولى، وتحويل العُلا إلى متحف حيّ ومسرح عالمي يربط الماضي بالحاضر. كما أُسست مؤسسات رائدة مثل هيئة الأدب والنشر والترجمة وهيئة المسرح والفنون الأدائية، لتمنح السرد العربي بنية مؤسسية تُعزز حضوره عالميًا. ولم يقتصر الأمر على البنية التحتية الثقافية، بل امتد إلى دعم صناعة المحتوى المرئي والدرامي المحلي، ليغدو قادرًا على المنافسة الدولية، وحاملًا للهوية العربية السعودية في خطاب بصري حديث. لقد تحوّل السرد، بفضل هذه الرؤية، من نشاط فردي أو تراث محلي إلى مشروع وطني، ومن ذاكرة مقصورة على المجالس إلى قوة ثقافية عالمية تسهم في تشكيل الصورة الذهنية عن المملكة والعرب. وكما كانت ألف ليلة وليلة سفيرًا للشرق في المخيال الغربي، يمكن اليوم للرواية العربية والدراما السعودية أن تكون نافذة حضارية جديدة تُعرّف العالم بإنسان هذه الأرض وقيمه وآماله. وهكذا، فإن رحلة السرد العربي من نار المجلس إلى ضوء الشاشة لم تكن مجرد انتقال في الوسائط، بل شهادة على علاقة العرب بالزمن والذاكرة والخيال. فالحكاية لم تكن يومًا وسيلة للتسلية فحسب، بل أداة لحفظ الهوية وصناعة المعنى. وبين الماضي والمستقبل، يظل السرد العربي جسرًا ثقافيًا متينًا، لا ينقل الذاكرة فقط، بل يعيد تقديمها للعالم بلغة جديدة، ويمنح الأمة صوتها الخاص في حوار الحضارات