الزرفة:

رحلة متسارعة من الإثارة والضحك.

عند الدخول إلى عالم “الزرفة” لا تحتاج إلى تمهيدات مملة أو تأطيرات فكرية مسبقة، كل شيء ينطلق دفعة واحدة؛ نكتشف أن ثلاثة شباب عاديين؛ معن وسند وحمد (محمد شايف، حامد الشراري، أحمد الكعبي) يجدون أنفسهم فجأة في مغامرة جنونية تبدأ من لعبة إلكترونية، مروراً بالتحاقهم للعمل في سلسلة مطاعم تتبع رجل الأعمال الغامض عبداللطيف الهنهوني (إبراهيم الخير الله) وصولاً إلى تخطيطهم لمهمة سرقة (زرفة) عقد ذهب يُطلق عليه “رشرش” يعود للهنهوني، وكلمة “زرفة” تعني في بعض اللهجات السعودية الدارجة “سرقة سريعة”. هذا الانتقال السريع بين العوالم يشي بتصميم واعٍ على إدخال المتلقي في دوامة أحداث دون توقف، وكأنّ متعة السينما هنا تُختصر في حركتها.  يُحسَب للفيلم أنه لا يتعالى على جمهوره، فيلم يريد أن يكون صديقاً لجمهور المنصات، ورفيقاً لجيل وجد نفسه بين لقطتين: لقطة تقليدية عابرة، ولقطة عصرية لا تتوقف. لذا جاءت التوليفة التمثيلية مزيجاً من الوجوه الشابة التي عرفها الناس عبر الميديا والمنصات ممن تشكلت شخصياتهم على الكاميرا الصغيرة، فصاروا وجوهاً مطبوعة في ذاكرة الشباب. لكن رغم هذه الحيوية التي تنبض في الصورة، فإن البناء الدرامي للفيلم يعاني من ارتباكٍ واضح في صياغة الحبكة، تبدو بعض المحاور مفاجئة أكثر من اللازم، وبعض التقلبات غير مبررة سرديًا. فمثلاً، فكرة السرقة للهنهوني، ثم التحوّل السريع إلى السجن، ثم الدخول إلى عالم “الجفرة”، ثم يكون الرشرش مزيفاً. كأنه عالَم متخيل يشبه “كوميديا الديستوبيا”، تمنح الفيلم نكهة عبثية، لكنها كانت ستغدو أكثر تأثيرًا لو تم تعزيزها بمنطق داخلي أقوى في السيناريو، وشخصيات تحمل دوافع مقنعة وليس مجرد أدوات للحركة والتغيير. على الرغم من ذلك، فإنّ “الزرفة” 2025 يُثبت أن السينما السعودية قادرة على صنع فيلم جماهيري ينبض بالحياة، دون أن يفقد صلته بالمشهد الثقافي المحلي. الطرافة اللفظية، واستخدام اللغة الدارجة بذكاء، والرمزية الخفيفة في شخصية الهنهوني الذي يمكن أن يُقرأ بوصفه نقدًا ساخرًا لرأس المال المتغوّل أو للبروباغندا الاستهلاكية، تمنح الفيلم طبقة مضمونية يمكن لمن أراد التأمل فيها أن يجد ضالته دون أن يشعر بثقل أو تعقيد.  دون مندوحة أن هذا العمل يُعد تجربة واعدة للمخرج الشاب عبدالله ماجد، الذي استطاع أن ينسّق بين الحركة السريعة واللقطات الكوميدية بانضباط بصري لافت، خاصة في المشاهد التي جمعت بين التهريج والإثارة، من مطاردة السيارات إلى الفوضى داخل السجن، حتى لحظات المواجهة في التصوير الخارجي التي استُخدمت فيها إضاءة خافتة أو تباينات لونية تحاكي المزاج العدمي للمكان. يمكن القول إن الرؤية الإخراجية كانت أكثر نضجاً من النص، وكأنّ الصورة سبقت الكلمة، وهذا ليس عيباً في فيلم يُفترض به أن يكون ترفيهيًا في المقام الأول. هناك مشاهد حملت حسّاً سينمائيًا رفيعاً، مثل تلك التي تُظهر أبطال القصة وهم يُخرجون أنفسهم من المآزق بطرق عشوائية ومرحة، سواء عند كشف أمرهم منذ الوهلة الأولى، والفرار واخفاء الرشرش في الصحراء، إلى محاولات الهروب من سجن الجفرة عبر مسار يؤدي في النهاية إلى غرفة استراحة العسكر، لكنّ خلف ذلك كله إشارات ذكية إلى طبيعة الجيل الجديد الذي يتحرك بالحظ أكثر من التخطيط، وكيف يصنع بطولته تجاه الفوضى. وهذه قراءة معاصرة لحالة الشباب، ربما قصدها صنّاع الفيلم وربما خرجت تلقائيًا من السياق دون ترتيب.  من اللافت أيضًا أن الفيلم استطاع أن يخلق هوية صوتية خاصة. الموسيقى التصويرية كانت متناغمة مع الأحداث، ورافقت مشاهد المطاردات والهرب، وصنعت نوعًا من “الإيقاع الداخلي” ساعد على توحيد الإحساس الزمني، رغم اختلاف الأماكن. هذا الاستخدام الحي للموسيقى يوحي أن هناك فهماً جيدًا لدور الإيقاع السمعي في السينما الحديثة، خصوصًا حين يكون الإيقاع السردي سريعًا لا يدعك تلتقط الأنفاس ودون ترهل كما في “الزرفة”، وهذا مطلب شبابي متقن. لا يمكن إنكار أن الفيلم حقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، سواء في عدد التذاكر المباعة أو في الأصداء التي خلفها بين جيل الشباب. تجاوزت مبيعاته 640 ألف تذكرة في ستة أسابيع، وهذا بحد ذاته مؤشر على أن المتلقي السعودي بات يثق بمنتجه المحلي، بل ويبحث عنه كخيار أول. وتلك النقلة ليست سهلة، فقد تطلبت سنوات من التمهيد، من خلال التجارب الأولى لأستوديوهات مثل “تلفاز11”، ومن خلال كسر الحواجز النفسية التي كانت تحاصر فكرة أن السينما المحلية لا يمكن أن تكون ممتعة. لكن، مع كل هذه النجاحات، تظل الحاجة قائمة إلى نص أكثر تماسكًا. ربما في عمل لاحق يحمل الروح ذاتها، ستُعاد معالجة العناصر السردية بحرفية أكبر، وستُبنى الشخصيات على طبقات أعمق، وليس على مواقف وظيفية. المشاهد كان سيندمج أكثر لو شعر بأن لكل شخصية ماضيًا أو هاجسًا أو رغبة حقيقية. عوضًا عن ذلك، ظلت الشخصيات تتحرك ضمن إطار الحالة دون دوافع، وذلك ما جعل النهاية الباردة في إلقاء القبض على الجناة تبدو أسرع من أن تُهضم، وكأنها وُضعت فقط لإغلاق الدائرة.  رغم هذه الملاحظات، يظل “الزرفة” عملاً سينمائيًا ممتعًا، يحترم رغبة الجمهور في الضحك، والحركة، والانفعال، دون أن يغرق في التكلف. ولعل هذا التوازن بين العبث والمغامرة، وبين الواقع والخيال، هو ما يجعل الفيلم علامة فارقة في مسار السينما السعودية. هو عمل جاء من قلب المرحلة، ويحاكي تحولاتها، ويعكس بذكاء إحساس الشباب الذين لا يطلبون من السينما إجابات، بقدر ما يريدون منها أن تمنحهم فسحة من الضحك والهروب المؤقت، إلى حين إشعار آخر.