هل نهضتِ الحداثةُ بالشعرِ أم أطاحت به؟

أعترف - ولست مُتحدّثًا عن الجمهور - أنّ من ضمن أسباب خفوت الوهج الشعري عند العامة ظهور ما يُسمى بتيار الحداثة في الخمسينات وما بعدها؛ إذ إن الصراع بين الحداثة والأصالة في زمنٍ من الأزمن بلغ ذروته، ووصل أوجَهُ؛ بحجة كونه دخيلًا على بيئة يُحيط بها النقاء الروحي، والصفاء العقدي من كل جانب. أرى إنّ الحداثة فكرة غربية هدفها تغيير ما هو ثابت، ورفض الانصياع لكل ما هو قديم؛ حيث تدعو لبناء الإنسان وتغييره وتنويره -على حدّ ادعائهم- في الأفكار والآراء والثوابت. والأدب أحد تلك الدعائم الأساسية التي مسّها ذلك الفكر في كل مجالاته وطرقه؛ ولا غرو في ذلك، فهو – أعني: الأدب– بيئة خصبة لِلَّعبِ فيه، والغوص في مكنوناته ولطائفه. لا يهمُّني أن يكون التغيير سلبًا من حيث الأهدافُ والتطلعات، بقدر ما يهمُّني أن نقتنص من هذا التغيير ما هو نافذة مُشرعةٌ للإبداع، وأفقٌ واسع للجمال والإمتاع، وميدانٌ للنضج الشعري الحقيقي، ومضمارٌ للسباق صوب الفنِّ والجمال، وهذا ما حصل في زاوية من زوايا الأدب، لا سيما الشعر. والذي أعجب منه أن يكون ثمة رفض تام للشيء بداعي النظر لأساس الفكرة وبزوغها، دون النظر لأشياء أخرى. فكثيرٌ ممن تلقوا هذا الفكر - أعني: الحداثة - نظروا له من زاوية الدين، فرفضوه جملةً وتفصيلا، وأغلقوا دونه الأبواب، وألّبوا عليه الإنس والجن. لن أتحدث عن هذا التيار كفكر عام أحدث صراعًا بين الأطياف المختلفة، وفتقًا بين المكونات المتسقة والمتلائمة، بل سأتحدث عنه ككائنٍ جاء ليضرب بقوة في مسار الشعر واتجاهاته، ويُحدث شيئًا غريبًا في فضائه الرحب، ويحول بوصلته من جهة لأخرى؛ لذا كان التلقي والتقبل له في بداية الأمر -وربما حتى الآن عند المنغلقين- غير مستساغ، ولا أدري هل يعذرون أم لا..؟ فالشعر الكلاسيكي المحافظ والأصيل كانت له الهيمنة العظمى آنذاك على كل أطياف المجتمع. جاءت الحداثة وهدفها أكبر من أن تحدث تغييرًا في الشعر، وهذا الأمر جليّ عند المفكرين والمثقفين والقُرّاء. ولكن لو تأملنا جانب الشعر نجدها لعبت فيه من جهتين، جهة إيجابية أثْرتِ الشعر من حيث إعادة توهجه وحيويته بلغة شعرية عميقة، وانبعاث روحه، وتجديد قاموسه، وتطوير رمزيته، ورقي أفكاره وموسيقاه، وانتهاء السطحية المبتذلة فيه، وخروج القصيدة عن إطار البيت والقافية الواحدة. وجهة سلبية أثّرتْ في الشعر من حيث الإيغال في الرمزية والتجريد؛ حتى لكأن القصيدة كلها في بطن الشاعر، والتنصل من الكلاسيكية الأصيلة في الجرس والإيقاع، وإدراج ما ليس في عالمه المُحكم كقصيدة النثر التي اقتحمت سياجه الحصين بداعي الشعور والإحساس. إن المتأمل لسَيرِ الأدب على مرِّ العصور يجده يتغيرُ بين حقبة وأخرى، فالشعر الجاهلي له سيماه المختلفة عن الشعر الإسلامي، والشعر الأموي والعباسي يختلفان عن الشعر الأندلسي، ولا غرابة في ذلك فالأندلسيون أهل بذخ وترف وغنى، فكيف لا يتغير شعرهم!؟ حتى أنهم أضافوا فنًّا من فنون الشعر يُقال عنه الموشحات، ومنه لا يذكر أبيات لسان الدين الخطيب: جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همى يا بلادَ الوَصلِ بالأَنـدلـسِ لم يكنْ وصــــلُكَ إلا حُلُما في الكَرى أو خِلسةَ المُختلس وقد ضعُف هذا الفنُّ، وربما تلاشى، وهو شيء بدهي غير مستغرب أو مستنكر. لا أقصدُ هنا -حتى لا اُفهَمَ خطأً، ولا تُحمّل المقالةُ على غير ما تحتمل- أن الشعر بحداثيته هو الأفضل حسًّا، والأكثر جذبًا؛ إذ ثمة شعراء ما زالوا رهن الكلاسيكية، وفي شعرهم جمال خارق، وبهاء دافق، وانطلاق وجنوح، وخروج عن المألوف في كتابة القصيدة القديمة. لا ينبغي للمتلقي أن يُقصي أحدًا ما دام الجمال والإبداع هو المحك، سواء كان القصيدة من الطراز الحديث، أو من نسجِ التراث. هناك من يطالب بنقض القديم من الأدب، وحزِّهِ من جذوره، وإلغائه من الوجود، حتى قال أحد روادها: إنه لا يمكن أن تنهض الحياة، ويبدع الإنسان إذا لم تهدم البنية التقليدية في الفكر العربي، والتخلص من الموروث الديني السائد، وهذا رأيٌ فاسدٌ مخالف للفطرة والمنطق، وفيه تمردٌ على القيم، وانتهاكٌ للأخلاق. بدأت الحداثة في الشعر مترنحةً، تتقدم تارة، وتتأخر تارات، وهي اليوم في أوج نهضتها؛ لذا أرى التعايش معها بما لا يتنافى مع الأصول والعادات والتقاليد، وأن يكون لجوانبها المضيئة أثرٌ في الأبعادِ الأدبية والنقدية والشعرية، فالتغيير ظاهرة صحية حيوية في الشعر وغيره. فليس لأحد على الإبداع وصية، فهو محمول بثقافة الآخر ولغته ومقوماته ومزاياه؛ لذلك ليس صحيحًا أن نبقى رهيني ثقافاتٍ متجمدة لا تقبل التغيير. نحن مع الحداثة المعتدلة في الأدب والشعر؛ حيث التفاعل مع العصر ومستجداته دون جمود أو انغلاق، ودون إقصاء للماضي الذي يُعد الأرضية الصلبة للحياة. نحن مع التغيير المؤطر بأطر الواقعية، أينما ذهب بنا نذهب معه متمسكين بفلسفته وعقلنته المؤمنة بطقوس الإنسان وفطرته. * جامعة نجران