موت جبير المليحان.. حزن يأتي من كل الأطراف.

كانت رائحة المساء تتسلل من نوافذ الطين، محمّلةً بعطر أرضٍ لم تغادرها الشمس يومًا دون أن تترك على خدودها أثر محبة. في تلك اللحظات التي لم تكن تشبه شيئًا سوى ذاتها، خطى جبير المليحان نحو العالم كمن خرج تواً من ذاكرة الرمل، أو كأن حائل نفسها أرسلته ليُجسّد ما تبقّى من النقاء. كان وجهه يحمل ذلك الصفاء الذي لا يُكتسب، بل يُولد مع الإنسان، كأنه خُلِق وفي قلبه مفاتيح لأبوابٍ لم تُفتح بعد. عندما يحدّثك، تشعر أن شيئًا في داخلك يعيد ترتيب نفسه. لم يكن يحاول أن يكون قريبًا من الناس، كان القرب ذاته، يتجلى في ابتسامة هادئة، وفي نبرة صوت تُشبه قراءة صلاةٍ قديمةٍ في محراب طفولة بعيدة. الاحترام لديه لم يكن عادة مكتسبة، بل حالة وجود. يقدّمه كما يُقدَّم الماء في صحراء، بلا تكلف، وبلا انتظار. كل من التقاه شعر أنه عاد من سفرٍ طويل، وعثر على ظلّ شجرة كان قد نسيها في ذاكرة الطفولة. جبير، الكاتب، لم يكتب ليُقال عنه كاتب. كتب لأن الكلمات كانت تبحث عن يدٍ تمسك بها حين تسقط من سماء المعاني. كانت القصة عنده نهرًا، لا جدولاً. نافذة تُفتح في السماء، لا في الجدار. كتب ذاكرة الخليج كما تُكتب المزامير: بنَفَسٍ طويل، وبقلبٍ يعرف أن الحياة تتكشّف في التفاصيل، في الحكايات التي لا يقولها الناس لكنها تعيش في عيونهم. وكانت القرية، بالنسبة له، ليست جغرافيا، بل طقساً روحياً. منبع الطفولة والحنين. ليست قريةً كما نعرفها، بل كيانًا نابضًا، يشبه حلمًا لا يتكرر إلا في سكينة الليل. أخوه كان يعمل في سكة الحديد، ذلك الشريان الحديدي الذي كان يربط الرمل بالبحر، والذاكرة بالمستقبل. وحين طلب ان ينتقل العمل من حائل إلى الدمام، بدا الأمر كما لو أن الجغرافيا تعيد رسم نفسها على صفحة قلبه. بدء الكتابة بالعمل كمصحّح للمقالات والقصص في جريدة اليوم بعد صلاة المغرب وحتى منتصف الليل، يُمسك بالقلم كما يحرث فلاحٌ أرضًا أرهقها الجفاف، يجمع الكلمات بعناية كمن ينتقي بذورًا صالحة للحياة. ثلاثمئة ريال في الشهر كانت كل ما يجنيه، ومع كل نص يصححه كان يشعر كأنه يغرس بذرة جديدة في تربة خصبة، ينتظر بفارغ الصبر أن يرى ثمارها تنضج في المستقبل. كان يعود إلى منزله متعبًا، يحمل معه رائحة الحبر وأحلامًا صغيرة يخبئها في درج مكتبه. بين أروقة يومه البسيطة؛ يستيقظ على صوت المؤذن، يودع أبناءه بابتسامة هادئة، ثم يمضي في زحمة الحافلات ووجوه الناس، محتفظًا بذلك الصفاء الذي لا تسمح له صعوبات الحياة أن ينطفئ. شعور الإنجاز، حين يرى النص يزهر بين يديه، كان يمنحه طمأنينة لا تُقدر بثمن، ويزيده إصرارًا على المواصلة في حقول الحرف والأمل. جرب الألوان. أمسك بالفرشاة كما يُمسك الإنسان بخيوط روحه. جرّب المائية فوجدها تنفر من أصابعه، والزيتية أثقل من أن تُطاوعه، فتراجع بهدوء، لا يأسًا، بل احترامًا لفن لم يشأ أن يزيفه. لم يُرد أن يكون فنانًا تشكيليًا، بل أراد فقط أن يرى العالم من خلال لونٍ مختلف. أما الأطفال، فكانوا بوصلته. لم يكتب لهم بل كتب معهم، كأنهم يضعون الحروف معه على الورق. كان يشعر أنهم مرآته، نقّاده الأشد صدقًا، بلا مجاملة، بلا تزييف. كل قصة كتبها كانت مواجهة صريحة مع قدرٍ لا يقبل المداراة. ومنذ أن شارك في تحرير صفحة الطفل في مجلة القافلة الأسبوعية التي تصدرها شركة أرامكو، بدأت الدائرة تتسع. أول مجموعة قصصية للأطفال صدرت له في 150 ألف نسخة، كأن الحلم قرر أن يتحقق بصوتٍ مرتفع. القصة عند جبير لم تكن حيلة أدبية، بل ضرورة وجودية. كانت الحكاية عنده خيطًا يشدّ الإنسان إلى ما كان يمكن أن يكون عليه، ويمنحه نافذةً يطل منها على ما يجب أن يكون. الحياة في نظره لم تكن إلا مزيجًا من حب وموت وألم. لكنه أضاف إليها عنصرًا خامسًا، لا تقوم الحياة بدونه: الحلم. كان يرى أن اتساع الإنسان مرهون بقدرته على الحلم. أن الألم، حين يُصاحب الحلم، يصير طريقًا لا عائقًا. وفي غمرة ذلك الهدوء الذي لا يخلو من شجن، قال لي يوما وهو مغادر جدة عائدا الى الدمام وداعه الأخير: «إلى اللقاء يا صديقي العزيز، إلى اللقاء». لم تكن كلمات وداعية بالمعنى التقليدي، بل كانت أشبه بعهدٍ يقطعه من يمضي، أنه سيعود، ربما ليس كما كان، لكن كحلمٍ جديد، في قلب طفلٍ يقرأ أول قصة له في مساءٍ يشبه مساءات حائل. وهكذا، انطوى الفصل لا كخاتمة، بل كبداية جديدة في كتاب الحياة، الذي لا تنتهي صفحاته، بل تتوالد من بعضها كما الأحلام. وداعاً يا صديقي العزيز.. وداعاً.. وإلى لقاء..