جبير المليحان:

حكايات تشرب من ماء الطفولة.

تعرفت لأول مرة على جبير المليحان، فقيدنا الراحل قبل أيام، في مدينة الرياض. كنت في السنة الثانية، ربما، طالباً في قسم المكتبات بكلية اللغة العربية حين جاء لجمع بعض المذكرات والمناهج الجامعية التي كان ينتمي إليها انتساباً. كان اللقاء خاطفاً، وأظن أن أخي أحمد هو من عرّفني عليه، قائلاً أن جبير أحد أصدقاء أخي علي، الشاعر الراحل، المقيم في الشرقية، وهو كاتب في صحيفة اليوم. عرفت لاحقاً أن جبير يتقاسم مع عبد العزيز مشري، الكاتب الراحل وابن قريتنا، شقة صغيرة بالدمام، وقد استضافت تلك الشقة أسماء أخرى من الشمال والجنوب تأتي لتمكث أياماً ثم تغادر، فلم تكن فكرة الإقامة في الفنادق شائعة فضلاً عن أن وعورة مسالك الحياة تمنعهم من أي رفاهية. اقتربت لاحقاً من جبير، أيام كان مراقباً إدارياً في إحدى الكسّارات في المدخل القديم لمدينة الدمام. كان مبتهجاً للاستقرار المالي الذي عاشه أخيراً، وانتهز فترة الرخاء تلك ليسافر إلى ألمانيا ويقيم عدة شهور هناك، ويشتري سيارة مرسيدس ويعود بها سائقاً عبر الطرق البرية من ميونيخ إلى الدمام، لتطوى حكايته مع الكسّارة وينتقل إلى صحيفة اليوم. كانت حياة المليحان متقلبة منذ مغادرته قريته «قصر العشروات» في حائل أوائل السبعينيات إلى الرياض ليلتحق بمعهد المعلمين فيها في غياب معهد مماثل في حائل، وتقلب دراسياً وعملياً حتى ثبتت أقدامه مدرساً في الجبيل، ثم مسؤولاً في التوجيه التربوي بالقطيف ليقضي فيها عقوداً حتى تقاعده. الروح المتقلبة التي لازمت جبير انسحبت على إبداعه أيضاً، فقد وجد نفسه متقلباً في أحضان الشعر والقصة معاً، بل والتشكيل في مرحلة من حياته. وأذكر أننا نظمنا أمسية شعرية في صيف «أرامكو» الثقافي عام ١٩٨٢ وشارك بقصائده معنا: علي الدميني وأحمد أبو دهمان وكاتب السطور. كانت قصائد جبير قصائد نثر كاملة، وحملت خروجاً على قصيدة التفعيلة وعلى البحور الشعرية المعروفة. ولربما عاد إلى الشعر رداً على عدم نشر قصصه في ملف «اليمامة» الثقافي عندما كان يشرف عليه الراحل علوي الصافي الذي اعتبرها اجتهادات لا ترقى إلى فن القصة السائد في تلك الحقبة. حين أعيد قراءة بعض نصوصه الآن: «الوجه الذي من ماء» و»ج.ي.م» فإنني أكتشف بعض أسباب التردد في نشر قصصه، بل وعدم ذيوعها كثيراً حتى بين كتّاب جيله. كانت كتابته تشكل مروقاً قاطعاً على بنْية القصة العربية المتوارثة لأجيال. قصصه لا تنطوي على حدث مركزي، وأبطاله هامشيين، أو مختفين لا نرى سوى ردود أفعالهم على ما يحيط بهم من أحداث أو مواقف اجتماعية، أو ما يتسرب إليهم من ذكريات قادمة من الطفولة، أو من مفردات الحياة العائلية، أو من تداعيات الأمكنة كالقرى والمزارع وساحات النخيل، أو من المعاش اليومي مع الإخوة ورفاق الصبا، وأحياناً من المخيال الذي يدور حول المرأة وما يلحق بها من استيهامات ورغبات. لم يكن الحدث القصصي ما يشغله ولكن ما وراء الحدث وتجلياته. إن كان هناك تيار وعي في كتابة القصة في المملكة، فإن جبير المليحان هو أحد ممثلي ذلك التيار بامتياز. وأعتقد أنه كان أقلّ امتثالاً لشروط المدرسة الواقعية التي هيمنت بمرجعيتها الفكرية والسياسية على كتاب سعوديين وعرب كثر. تأثرت تجربة جبير بقراءته لترجمات الرواية العالمية مثل: جويس وفوكنر وفرجينيا وولف وأمثالهم من كتاب القصة العرب وكان لمؤلفات سارتر وكولن ولسون آثاراً على تفضيلاته الجمالية في ذلك الزمن. ستجد السرد متشظّياً لديه، وصراع أبطال قصصه يغلب عليه الطابع الجوّاني، والمنولوج الداخلي، وردود الفعل على الأحداث لا صناعته. ويمكن استثناء روايته «أبناء الأدهم» لأنها بنيت على شخصيات حقيقية، وكان جبير يشتغل على سرد الرواية الأصلية المدفونة لبطلي الجبلين الشهيرين في منطقة حائل «أجا» و «سلمى» وتفكيك لغزها التاريخي، وهنا توجب عليه لجْم لغته الشعرية وصوره المتخيلة، ورواية الحقيقة التاريخية بأقصى قدر من الشفافية والواقعية. هناك جانب مغفل في سيرة جبير، وهو شغفه بكتابة قصص للأطفال، إذ ما أندر المبدعين الذين ينجحون في السير على هذا الطريق، عرفت هذا عن كثب حين بادرت أرامكو السعودية إلى طباعة مجموعته الوحيدة للأطفال وهي «الهدية» وقد عملت بصحبة زملاء من الشركة مع جبير، وفنان سوداني لامع هو سيف الدين لعوته لإظهار هذه المجموعة في أبهى شكل، فعكف لعوته على صنع رسوم باهرة زينت صفحات الكتاب، ولا زلت أتذكر دهشة هذا الفنان وهي يقرأ المجموعة واعتبرها عملاً استثنائياً في حقل الكتابة العربية للأطفال.