جبير يتحدث عن توقيعه الخاص في الادب السعودي:
«القصة الصغيرة» أكبر من وخزة وأصغر من عملية جراحية.

لم يكن جبير المليحان مجرد قاص سعودي يكتب القصة القصيرة ويجرّب أشكالها، بل كان رائدًا في صياغة ملامح جديدة للسرد، حيث انفرد بمصطلح “القصة الصغيرة” ليعبّر عن مشروعه الأدبي الذي آمن به منذ منتصف السبعينيات. ففي الوقت الذي كان فيه الجدل الأدبي يدور حول “القصة القصيرة جدًّا”، قدّم المليحان تسميته الخاصة، وكأنه يريد أن يمنح هذا الشكل هوية مستقلة، تحمل روحًا متفردة وخصوصية واضحة القصة الصغيرة عنده ليست مجرد نصوص مقتضبة، بل ومضة تحمل شعرية وصدمة معًا؛ نفس عميق وجرح صغير يفتح للقارئ نوافذ الدهشة. وهي تقوم على اقتصاد اللغة واحترام الكلمة، حتى تكتمل الحكاية أحيانًا في سطر أو سطرين يجمعان الحدث والمكان والزمان والمفاجأة بهذا المعنى، غدت “القصة الصغيرة” علامة على أسلوبه وفرادته، وجسرًا بين الشعر والسرد، ووردة مكثفة في بستان الأدب السعودي والعربي. وهنا، ننشر مقالاته التي فصّل فيها رؤيته لهذا الفن، ممهّدًا لنا طريقًا لفهم سرّ اختياره، وأسباب انحيازه لهذا المصطلح الذي صار قرين اسمه وذاكرته الأدبية 1 - القصة الصغيرة أدعو إلى (اقتصاد اللغة) في القصة القصيرة؛ فلاحاجة لكلمة لا تخدم جسد النص، إنها زائدٌ شحمي من حروف تُرَهّل ما يخيطه المبدع وهو يحيك كلماته. الكلمة كائن حي ومحترم؛ فلا تفرطوا بكلماتكم وكأنها أوراق شجر تتساقط مع الوقت. أحب القصة الموزونة التي تأخذني لغتها، وتأسرني أحداثها، وأتفاجاً بنهايتها غير المتوقعة، وعندما أنتهي من قراءتها؛ ينبت في ذهني الكثير من الأسئلة، وتسكنني الدهشة، وتنفتح نوافذ جديدة في ذهني. لقد كتبت القصة الصغيرة - كما أسميها - منذ وقت مبكر، ونشرت في ملحق (المربد) الأدبي الصادر عن جريدة اليوم بالدمام، كان ذلك عام ١٩٧٦ م، حيث نشرت إحدى عشرة قصة صغيرة تحت عنوان: (الطفل يريده : اللون الأبيض). لكن ما هي القصة الصغيرة في مفهومي؟ . أحسها (صغيرة فعلاً)، إنها كنفس عميق جدًّا، ليست حكمة، ولا لغزاً، إنها شفافة وعميقة كالشعر، ولكنها فاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن، إنها ألم في القلب، أكبر من الوخز، وأصغر من عملية جراحية. (فنتازيتها) في كونها فاجعة، صغيرة، مكثفة، وغير متوقعة، ولكنها اختصار كبير لحياة ما. القصة الصغيرة رشيقة ورياضية في كلماتها، ولكنها ليست أرقاماً تتساوى أمام الجميع؛ فدلالات رموزها واسعة كسعة العقول، ومفاتيحها تعطي مؤشرات لمستقبلها لتتبع ما يطرحه الكاتب. والقارئ يمكنه إبداع قراءتها على أي مستوى يريد. إن القصة الصغيرة تكمن عموميتها في كونها نمط لا يقول - بوصفه فنا - كل شيء، إنما يكشف وجهه الأول وعناوينه ورموزه، آخذا القارئ إلى عوالمه الداخلية الأخرى. إن أسلوب القصة الصغيرة يعتمد على المفردة وليس الجملة؛ فالكلمة في معادلة الأسلوب، هذه لا مكان لها؛ إذا كان يمكن الاستغناء عنها. إن النموذج المثالي لهذا النوع من القصص يكمن في سطر أو سطرين أو عدة أسطر تكتمل بنهايتها القصة، على أنها عند الكثيرين أطول من ذلك، كما يرون. ولقد صدرت لي مجموعة قصصي الثالثة بعنوان (قصص صغيرة) من نادي الجوف الأدبي عام ٢٠٠٠م، وفازت هذه المجموعة بجائزة أبها. الفرع الأدبي. عام ٢٠١٠. 2 - صغير! لماذا؟ (الكلمة) كائن؛ له تقديره في النطق، والرسم، ولذلك على الكاتب وضع كل كلمة في مكانها الصحيح دون تبذير. إن (الاقتصاد في اللغة) أهم عناصر الإبداع؛ فإذا كانت الرواية تعتمد على الشرح والتصوير والتحليل في مقاطع طويلة، فإن القصة القصيرة تعتمد على (الجملة)، وأي خلل فيها. الحشو مثلاً. ينقص من المعنى. أما القصة القصيرة جدا فتعتمد على (الكلمة). لقد كتبت القصة (الصغيرة) كما أسميها، منذ وقت مبكر، ونشرت في ملحق (المربد) الأدبي الصادر عن جريدة اليوم بالدمام، كان ذلك في 10/4/1976 حيث نشرت إحدى عشرة قصة صغيرة تحت عنوان: «الطفل يريده: اللون الأبيض». وأزعم أني أول من كتبها في المملكة العربية السعودية. توقفت بعض الوقت عن الكتابة، وطويلاً عن النشر، وعدت بنشر مجموعات من القصص الصغيرة في مجلة (النص الجديد) والصحف السعودية: (اليوم. الجزيرة. الرياضي). هذا أولاً : أما ثانياً فهو: شهادتي حول القصة القصيرة جداً، وهي كالتالي: القصة الصغيرة: أحسها (صغيرة فعلاً) ، إنها كنفس عميق جدا، ليست حكمة، ولا لغزا، ولا خاطرة (لوجود الحدث) إنها شفافة وعميقة كالشعر ولكنها فاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن ، إنها ألم في القلب: أكبر من الوخز ، وأصغر من عملية جراحية. «فنتازيتها» في كونها فاجعة، صغيرة، مكثفة. وغير متوقعة، ولكنها اختصار كبير لحياة ما. القصة (الصغيرة) رشيقة ورياضية في كلماتها، ولكنها ليست أرقاما تتساوى أمام الجميع: فدلالات رموزها واسعة كسعة العقول، ومفاتيحها تعطي مؤشرات لستقبلها لتتبع ما يطرحه الكاتب. والقارئ يمكنه إبداع قراءتها على أي مستوى يريد. إن القصة (الصغيرة) تكمن عموميتها في كونها نمط لا يقول - كفن - كل شيء، إنما يكشف وجهه الأول وعناوينه ورموزه آخذاً القارئ إلى عوالمه الداخلية الأخرى. إن أسلوب القصة الصغيرة يعتمد على (المفردة) وليس الجملة: فالكلمة في معادلة الأسلوب هذه لا مكان لها إذا كان يمكن الاستغناء عنها. إن النموذج المثالي لهذا النوع من القصص يكمن في سطر أو سطرين، أو عدة أسطر تكتمل بنهايتها القصة - بشروط الحدث والمكان والزمان والمفاجأة في النهاية-، على أنها عند الكثيرين أطول من ذلك، كما يرون. ===== قصص صغيرة ثلاثة مشى فينا القطار، تتراكض الأيام من النافذة، قهقه طفلي الجالس خلفي فرحا بركض الأشجار، التفت إليه فإذا هو أبي يملأ كرسيّه بالبكاء. الدمام 1997/1/11م. أمن عبدالله: بعد أن أتمّ تركيب الباب الضخم لبيته، ووضع النوافذ الضيقة في أماكنها، وحماها بشبك الحرامي القوي... تنفس عميقا، ثمّ شرع ببناء البيت. .........! الدمام 1997/3/17م. طيور وأسماك عدنا من البحر، بعد يوم طويل. لم نصطد سمكة. وأنا أقترب من البيت فرّ الكثير من النوارس من فوق برميل القمامة، بجانب الباب، رفرفت قريباً، وأنا أنظر إليها، ثم بدأت تحط حول براميل الجيران .. والجيران.. والجيران... الدمام 1993/5/18م. جوع السيارة المعبأة بثمانية (أم، وأطفالها، وأب) تمرّ بجانب البحر، ووجوه الثمانية تنعكس في الماء ، السيارة مسرعة، والأسماك تنقضّ، وتأكل صور الوجوه الثمانية، وتترك اصطفاق عظامهم متبخراً، مع أحلامهم القادمة كغيمة بيضاء، صغيرة، تمرق فوق البحر! الدمام 1997/2/26م. الأرض أخذ الطفل الصلصال، وصنع منه كرة كبيرة، وضعها في منتصف ألعابه: تسلقتها الأسود، والنمور، والقطط، والأطفال، والفراشات، والسيارات، والطائرات ... فاجأته أمه وهو يُعينها، ويُثبتها في أماكنها، مصدراً أصواتها الخاصة.. - ما هذا ؟ -هذه الأرض! وأشار إلى موقع بيتهم فيها: كان سريره هناك. بعد قليل، عادت الأم على صراخه الحاد، شاهدته يرفع قبضته محتدا، ومنتحبا: - لقد داس أخي الكبير الكرة وهو يمر من هنا! كانت كرة الصلصال تلتصق بالأرض، والسكان يتناثرون !! الدمام 1994/7/27م.