حِضْنٌ أبَدِيّ

لم يَعْرِفْه أحد..غير تلك الأزقّة الضيّقة التي تخترق خاصرة القرية، عانقته بشوق، ضَمَّتْه إليها بدفء. جدرانها العتيقة تحفظ - ما تزال - صوتَه حين كان يركض حافيًا خلف رفاقه. لم يتغيّر الكثير؛ الغبار هو الغبار، والحجارة التي كثيرًا ما تعثّرت بها خطواته ما زالت في مكانها، والدور هي الدور وإن توالدت ديارًا أخرى. كل أشياء القرية بادلته الوفاء، باستثناء تلك الوجوه الجديدة التي تثقبه بنظرات مرتابة تبعث على الرعب. في قلبه مساحة خضراء لا يراها أحد، بستان صغير زرع فيه أحلامه الأولى. هناك كان يضحك من دون سبب، ويبكي من دون خوف، ويغفو على رائحة التراب المبلل بالمطر. لكنه حين مدّ يده ليلمس تلك الذاكرة، لم يجد سوى فراغ بارد. كل الذين شاركوه الطفولة رحلوا؛ بعضهم التهمته المقابر، وبعضهم تخطَّفته المنافي، وبعضهم ألبسته السنوات أقنعة من ملامح جديدة. وهو وحده ظلّ يفتّش عن نفسه بين الظلال. كان يدرك أن سنوات ما بعد الطفولة ليست عمرًا، بل جرحًا مضيئًا لا يلتئم. اقترب من شجرة «العِلْب» العتيقة، التي بقيت كشاهد صامت على حياته الحقيقية. مدّ يده، قطف ورقة ذابلة، وضعها على صدره كأنّها تعويذة ضدّ النسيان. عندها شعر بأن قلبه يبطئ ضرباته شيئًا فشيئًا، وأنه يعود طفلًا مرة أخرى. حين وجدوه صباحًا مستلقيًا تحت الشجرة، كان وجهه ساكنًا، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة، كأنه استعاد أخيرًا عُشبة طفولته، وغفا في حضنها الأبدي.