في «يوقد الليل أصواتهم ويملأ أسفارهم بالتعب» لعبد العزيز الصقعبي ..
شعرية الاغتراب والهرب من أسر الهامش.

غواية السرد العصي: القصة القصيرة جنس سردي عصي في نظامه الاختزالي الذي به تتكثف فاعلية عناصره، متشكلة في سرد يوصف بالقصر والاكتمال وبمسرود واحد يوصف بالمركزية في الأغلب. وقد تبدو القصة القصيرة عصية بسبب سماتها التي تتضاد فيما بينهما حيث الاختزال يقابله التمثيل والتكثيف يقابله الإيفاء والقصر يقابله الاكتمال. وهو ما يجعل كثيراً من كتّابنا يهابون هذا الجنس ويسترهبون الخوض فيه مفضلين عليه الرواية التي تتوضح ظاهرة طغيانها على الأجناس السردية الأخرى في أوقات الشحة الإبداعية وأزمات الواقع الحياتية الطارئة وغير الاعتيادية، حسب د. نادية هناوي. ويعترف عبد العزيز الصقعبي بأن كتابة القصة القصيرة هي الأصعب، «وهي حسب رأيي الممتعة للكاتب والقارئ، وتجربتي مع القصة القصيرة مرّت بمراحل، مرحلة البدايات، وثم النضج، وبعد ذلك قررت أن أخوض تجربة الاختلاف بكتابة النص، وكان ذلك بدءًا من مجموعة «يوقد الليل أصواتهم ويملأ أسفارهم بالتعب»، حيث حرصت أن يكون النص الذي أكتبه غير تقليدي». صعوبة كتابة هذا اللون السردي يلخصها ماركيز في تشبيه بليغ: «كتابة القصص القصيرة أشبه بصب الإسمنت المسلح، أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر»، ولعل صعوبة كتابتها جعلت الكثير من الكتاب يهجرونها، ويتهافتون على كتابة الرواية، التي صار يكتبها كل من هب ودب في السنوات الأخيرة، ولهذا لن نختلف مع والتر ألن في تعريفه لهذا اللون السردي العصي بأنها «أكثر الأنواع الأدبية في عصرنا الحديث بالنسبة إلى الوعي الأخلاقي فهي عن طريق فكرتها وفنيتها تتمكن من جذب القارئ إلى عالمها فتنبسط الحياة الإنسانية أمامه، بعد أن أعادت صياغتها من جديد». وينحاز فرانك أوكونور إلى فن القصة القصيرة، حيث يعتبرها «الوسيلة لأن نقول شيئا لا يمكن التعبير عنه بأية طريقة أخرى»، ويقر بأن ثمة شيء لا نجده في كثير من الأحيان في الرواية « الوعي المكثف لكون الإنسان وحيدا». * الهروب من الهامش: في أضمومته السردية «يوقد الليل أصواتهم ويملأ أسفارهم بالتعب» يعود القاص والروائي عبد العزيز الصقعبي إلى بئره الأولى، مستودع الحكايا الآسرة: القرية، منحازا إلى عالمها القاسي والأثير، عالم الهوامش البشرية التي تكابد شظف المعيش اليومي وقسوة الجغرافيا. يكتب الصقعبي برهافة سردية عن الجوع إلى حياة أفضل في عالم قاسٍ على حافة الوجود، والتوق إلى حياة أقل قسوة توجد بعيدا عن بيوت القرية، ويلاحظ القارئ أن هذه القرية ليست مجرد خلفية مؤقتة أو ديكور عابر، وإنما شخصية رئيسة وفاعلة. انتصارا لما يسميه رولان بارت «أدب التمزق»، وهو نقيض «أدب الاكتظاظ»؛ ذلك الأدب «الواقعي»أو «الإنساني» يفتتح عبد العزيز الصقعبي أضمومته السردية «يوقد الليل أصواتهم ويملأ أسفارهم بالتعب» بقصة «الخطوة»، واللافت للانتباه أنه لا توجد أية قصة بهذا العنوان ( عنوان المجموعة القصصية)، بل يتعمد الكاتب الإشارة في فهرس الكتاب إلى عبارة «بضع قصص»، كأنما يؤكد أن هذه القصص مجرد مشاهد مختلسة من ذلك السفر الأزلي الأبدي، والذي يبدأ - حتما - بخطوة على طريق المجهول، بعيدا عن أقاليم الحياة الهامشية. مثل أي قارئ سيئ، قرأت القصة الأولى (الخطوة)، بسبب طغيان الليل، وحضور النار، وكأنها القصة التي وهبت المجموعة القصصية عنوانها، ولم أتوقف عند عتبة «الخطوة» إلا عند القراءة الثانية، وحتى هذه اللحظة أصر على أن أقحم مفردة «يوقظ» بدل «يوقد» في عنوان هذه الأضمومة السردية، التي تحتفي بالتمزق والقلق، والغربة، فالليل ليس مجرد ظاهرة طبيعية تبدأ مع غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر، بل هو ليل سيكولوجي يفاقم غربة الشخوص. ومثلما بدأت شهرزاد البوح ليلا، اقتفت حفيداتها خطواتها على درب الحكاية، بحثا عن فضاء مواز أكثر انفتاحا، رحابة وأملا، لكن الصقعبي لا ينجرف مع الحكاية التي تعيرنا إياها الجدات، بل ينفذ من سياج الكتابة الكلاسيكية في هذه القصص، وهكذا سيختار الرجل المحتفى به في قصة «الخطوة» وتلك المرأة أن يغادرا القرية، بعدما انطفأ صوت الطبل. *امتداد الوحشة الإنسانية: بكلمات قليلة يكتب عبد العزيز الصقعبي عن غواية الترحال بحثا عن لحظة التنوير/الانفراج، ويلملم شظايا حيوات شخوص قصصه، التي تعيش على حافة الحياة، وهو يتلصص على غربة الداخل ووحشة «الجنوب».. يحشد حياة بأكملها في بضع دقائق تاركا للقارئ كتابة ما تبقى من نهايات مؤجلة في مسرودات مشبعة بالحذف والمحو، وتتحول لحظة التنوير في قصص الصقعبي إلى امتداد عميق للكينونة الجريحة والوحشة الإنسانية، كما في قصة «الجنوب»، التي يمكن أن نعتبرها - ببعض التعسف - معادلا جماليا لصراع الأجيال، حيث حاول الأبناء/الذين يحملون مشعل المستقبل، ولاحقا الآباء التخلص من أسر المكان/ القرية، بينما بقي الشيوخ والمقعدون أسرى الماضي في استسلام ذليل، لكن ألا يمكن للبريق الزائف للأمل/ الذهب أن يجرف حيوات هذه الهوامش البشرية، كما في حدث في قصة «المستنقع»؟ لم يحدث أن كان للقصة القصيرة بطل قط، وإنما كان لها بدلا من ذلك «مجموعة من الناس المغمورين»، حسب فرانك أوكونور، ويعترف بأن «هذه الجماعة المغمورة « تغير شخصياتها من كاتب إلى كاتب، ومن جيل إلى جيل.. ففي قصة «الممر» ترحال آخر، ليس بحثا عن خلاص ما، وإنما بدافع الفضول «القاتل»، حيث غادر سكان الحي مع بداية الليل المدينة في اتجاه الجبل، لمعرفة صاحبة الصرخة، غير عابئين بنصيحة شيخ لتأجيل الرحلة حتى الصباح، ويتزعم الموكب رجل بقدم واحدة، «رجل بترت قدمه حرصا على أن لا يسري وباء أصابها إلى بقية جسمه، فبدأ يمشي على عكاز خشبي»، فانتهى الرجل الأعرج ميتا بلذغة أفعى في آخر المطاف، لأن أغلب الرجال في الحي» لا يقوون على الزواج بأكثر من واحدة»، كما قالت امرأة، وهي تفضح انهزامية الرجال وعجزهم، لكن تلوح إشراقة صباح/أمل جديد مع الوليد الجديد في آخر القصة، بيد أن الثمن كان غاليا، فقد دفعت أمه حياتها ثمن هذا الأمل، وكانت صرختها بداية تحرير المدينة من سكونيتها واستسلامها... لكن، هل يمكن أن يكون مصير هذا الولد/البطل مثل أطفال الحي في قصة « الطعم»، الذين حيروا آباءهم باختفائهم الغامض؟! هل يمكن أن يلقى نفس مصير بطل قصة «الهشيم»، الذي سقط في البئر المهملة ، حيث فشلت كل محاولات انتشاله من القاع بسبب الأشواك المحيطة بحافة البئر، فانتهى به المطاف لقمة سائغة للنيران؟ ذلك هو السؤال، وتلك هي التجربة... في معظم النصوص، نجد شخوصا أدارت الحياة ظهرها لهم، فتحولت الكتابة إلى مرثية للاغتراب والانكسار، وأضحت الجمل السردية، الشحيحة، المقتضبة نوعا من التماهي الجمالي مع خطوات لاهثة تبحث عن خلاص ما، رحلة لن تكون آمنة وغانمة، لكنها محض مخاطرة! هذه «الأسفار» هروب من أسر الهامش، مجازفات في بحر المجهول، بحثا عن خلاص ما، بعيدا عن مكر الحكاية وقسوة الجغرافيا. تذكرنا هذه الرغبة الجامحة في الترحال بأول رحلة في تاريخ البشرية، وبأن الترحال قدرنا المؤلم منذ الخروج من الجنة؛ أولى خطوات رحلة التيه الإنساني!