تكتل الشرق..

لا أحد يحتكر المستقبل.

في خضم التحولات العميقة التي تشهدها الساحة الدولية، يبدو أن الجغرافيا السياسية لم تعد مرهونة فقط بما ترسمه القوى التقليدية من خطوط حمراء، بل باتت ملامح عالم جديد تتشكل بهدوء، من خارج الدوائر الغربية المعتادة. التحرك الثلاثي الأخير بين موسكو وبكين وبيونغ يانغ، وإن بدا للبعض محطة دبلوماسية عابرة، إلا أنه يحمل إشارات استراتيجية لا يمكن إغفالها، خاصة إذا ما قرئ في سياق أوسع من مجرد تبادل للمجاملات أو الصور البروتوكولية. ما يدعو للتأمل ليس فقط توقيت هذا التلاقي، بل طبيعته أيضاً. فبين روسيا التي تعيش مواجهة مفتوحة مع الغرب، والصين التي تناور بدقة بين التزاماتها الاقتصادية وطموحاتها الجيوسياسية، وكوريا الشمالية التي تبحث عن نافذة للخروج من عزلتها، تتقاطع مصالح قد تبدو متباعدة، لكنها تتلاقى عند نقطة واحدة: الرغبة في تقليص هامش الهيمنة الغربية، لا من باب المواجهة الصريحة بالضرورة، بل من خلال بناء فضاءات نفوذ بديلة. ليس من المستبعد أن نشهد في السنوات المقبلة تبلور نمط جديد من التكتلات، لا يعيد إنتاج ثنائيات الحرب الباردة، بل يسعى إلى صياغة علاقات أكثر مرونة، تُبنى على البراغماتية المشتركة بدلاً من الإيديولوجيا. التحالفات الناشئة لا تدّعي التجانس، لكنها تعبّر عن تحوّل في فهم موازين القوى، حيث لم يعد الصمت على تفرّد الغرب خيارًا مقبولاً بالنسبة إلى كثير من القوى الصاعدة. إن ما يجمع بين بكين وموسكو وبيونغ يانغ لا يقتصر على رد الفعل تجاه السياسات الأميركية أو الأوروبية، بل يرتبط برؤية أوسع لعالم متعدد الأقطاب. في هذا السياق، لا تعود اللقاءات الثلاثية مجرّد خطوات رمزية، بل تصبح إشارات عملية على أن هناك من يعيد ترتيب أوراق اللعبة من جديد، وفق قواعد مختلفة. ربما يكون الأهم في هذا المشهد هو أن هذا التقارب لا يجري في فراغ، بل على وقع توترات قائمة ومفتوحة: من الحرب المستمرة في أوكرانيا، إلى التصعيد في مضيق تايوان، مروراً بإعادة التسلح في شبه الجزيرة الكورية. هذه الأزمات تمنح التحركات الثلاثية زخماً إضافياً، وتفرض على اللاعبين الآخرين – خاصة في الغرب – أن يقرأوا المعادلة من زوايا جديدة. ومع ذلك، لا ينبغي أن يُفهم هذا المسار بوصفه تحالفًا عسكريًا صارمًا أو تكتلاً إيديولوجيًا مغلقًا. فالصين مثلاً، وإن أظهرت انفتاحاً على الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، ما زالت حريصة على عدم خسارة علاقاتها المتينة مع أوروبا والولايات المتحدة. وروسيا، التي تعزز وجودها الآسيوي، لا تزال تبحث عن أوراق ضغط في معركتها المستمرة مع الناتو. أما كوريا الشمالية، فهي تحاول عبر هذا الانفتاح كسر جدار الحصار، وإن كان ذلك عبر خيارات محفوفة بالمخاطر. الواقع أن التحول الجاري اليوم لا يتعلق فقط بما يفعله الثلاثي الشرقي، بل بما يعكسه من مآلات عالم يتغير. لم يعد بالإمكان العودة إلى لحظة القطبية الواحدة، حيث تُدار العلاقات الدولية من مركز واحد. حتى بعض حلفاء الغرب التقليديين، مثل الهند وتركيا، باتوا ينتهجون سياسات خارجية أكثر استقلالية، ما يشير إلى اتساع الهوامش أمام الدول المتوسطة والصاعدة لإعادة تعريف موقعها في النظام العالمي. في نهاية المطاف، ليس السؤال المطروح اليوم ما إذا كان الشرق يتحدى الغرب، بل كيف سيعيد العالم تنظيم نفسه بعد عقود من مركزية القرار الغربي. التحركات الثلاثية الأخيرة لا تدق جرس إنذار فقط، بل تفتح الباب أمام مقاربة جديدة للتوازن الدولي، عنوانها الأبرز: لا أحد يحتكر المستقبل. * باحث ومستشار سياسي