
من المسلَّم به عقلاً وفكراً وممارسة أن التأمل في سِيَر أهل الفضل؛ تزيد الفضل، وأن استمطار التأريخ يُثمر العِبَر، إضافة إلى ما فطرت عليه النفوس من التلذذ بالحكايات والمواقف المثيرة للتعجب. وفي جامع بيان العلم وفضله قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:”الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحبّ إليّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم” وقد صدق؛ فكل عمل ينتج عن حُبّ يثمر ويبدع، ودقة الإمام أبو حنيفة تجدها في قوله:”كثير من الفقه” أي قضاياه، تحرزاً من التعارض مع مسلمات العقلاء عن أهمية الفقه وضرورته للفكر، كما ذكر ابن الجوزي فائدتين في السِّيَر، أولاهما حسن التدبير واستعمال الحزم من الحازم، والخوف من التفريط إذا وُصِفَتْ عاقبةُ المفرِّط، وثانيتهما: الاطلاع على العجائب، وفي المنتظم في تأريخ الأمم والملوك قيل لرجل كبير السن جداً: هل تحب أن تموت؟ قال: لا!، قيل: وَلِمَ؟ قال: أسمع بالعجائب، وإنما قصد العِبْرةَ والأَثَر! وفي هذه الدائرة وحولها تصفحت كتاباً عن الشيخ عبدالله الحسيني، فوجدت فيه الكثير من العجائب، والأكثر من العِبَر! عنوان الكتاب: “الشيخ عبدالله الحسيني أول مندوب لتعليم البنات في المنطقة الوسطى بالمملكة العربية السعودية” وقد رأى النور بعد تردد طويل من الشيخ رحمه الله في تدوين سيرة حياته، حتى استجاب لرغبة وتشجيع من الأمير خالد بن بندر، فألَّفه ابنه الإعلامي النابه الأستاذ محمد بن عبدالله الحسيني،في مئة وعشرين صفحة، مطبوعة على ورق ملون بجودة فاخرة، جمع المؤلف فيها صوراً وحكايات ومواقف تكاد أن تتكلم، وقد تبلغ العجب، عن حياة والده المربي الرائد الشيخ عبدالله الحسيني وسيرته المضيئة بالتطلعات والعزيمة ثم الإنجازات، بل وعن بعض الأحداث التأريخية مثل حصار جدة وما قام به الشيخ السبيعي من جهد لدعم ميزانية الدولة، والتصرف الحكيم من الملك عبدالعزيز مع المندوب الإنجليزي، مما أورث الذعر في نفس شريف مكة، وغير ذلك من المواقف الدالة على فطنة وذكاء الملك عبدالعزيز رحمه الله. بدأ المؤلف بالحديث عن نشأة فكرة الكتاب، أعقبها بسطورعن تأريخ الرئاسة العامة لتعليم البنات، ثم مقدمة ضافية كتبها الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وهو الصديق الصدوق للمترجَم له، فجاءت تلك التوطئة العاجلة - كما أسماها – في ست صفحات زاخرة بالثناء والإعجاب بشخصية ذلك العلم والوفاء لتضحياته ونجاحاته، وبخاصة أنه كان شاهد عيان على بعض منها، ثم ثنَّى بمقدمة لمعالي الدكتور علي المرشد الرئيس العام لتعليم البنات في وقته، ثم بوَّب أربعة وثلاثين عنواناً، في شكل أخبار ومقابلات ومقالات، وتعليقات،ثريَّة، وذات بُعْد تربوي وتأريخي. وختم كتابه بعدة صور مهمة من إرشيف والده، وقد استعرض الكتاب سيرة الشيخ عبدالله الحسيني، الرائد في تأسيس التعليم الرسمي للبنات في المملكة، استعراضاً غنياً بالذكريات، والوقائع التاريخية والصعوبات التي واجهها خلال عمله، من خلال أحداث واقعية وصور تبرز مرحلة تأسيس التعليم النظامي للبنات، في سرد تقريري مفصل لتحديات تعيينه مندوباً للتعليم لأول مندوبية في المنطقة الوسطى بشقراء ضمن خمس مدن منها مكة المكرمة، حازت قصب السبق لبدايات تأسيس التعليم النظامي للبنات في المملكة ، ثم جهوده في فتح مدارس تعليم البنات في شقراء والمجمعة والزلفي والرس وحائل وغيرها من مناطق المملكة، وما تعرض له في بعض المدن التي لم يسمِّها من تهديدات بلغت حدّ الإيذاء الجسدي من بعض المعارضين لهذا التحوّل الاجتماعي، كما سلَّط الضوء على التضحيات وصَدّ المواقف الرافضة، والصبر من الشيخ الحسيني حين تعرض للمضايقات، والإجحاف، لكنه ظلّ متمسكًا بقضيته حتى تحقق تعليم المرأة، بفضل دعم ولاة الأمر، مما أفضى إلى النهضة التعليمية الحالية للبنات في المملكة. وصَاحَب السرد التقريري تحليلٌ اجتماعي وتربوي للانتقال من التعليم التقليدي بالكتاتيب إلى التعليم الرسمي للبنات، بشكل منظم وحذر؛ بالتركيز على الرقابة العلمية، ومنع الاختلاط، واختيار مدرسات متميزات ومستقيمات السيرة، كما تضمن الكتاب شهادة من المؤلف أ. محمد الحسيني تعكس التأثير العميق لمسيرة والده، وتقديره للتعليم الذي أنار طريق المرأة السعودية، برغم ما رافقه من تحديات ومشقات. ويمكن تلخيص الخط الزمني لمسيرة الشيخ عبدالله الحسيني، الذي يوضح الانتقال من الصراع والرفض إلى القبول والنهضة، وجهود الحسيني في تثبيت التعليم النظامي للبنات حتى أصبح أمرًا مسلّمًا به على النحو التالي:ففي عام 1379هـ / 1959م تمَّ إنشاء مدارس للبنات بأمر من الملك سعود، وتكليف الشيخ عبدالله الحسيني مندوبًا للتعليم في المنطقة الوسطى. وفي عام 1380هـ / 1960م سعى الشيخ عبدالله لافتتاح أول مدرسة للبنات في شقراء، وفي عام 1381هـ / 1961م افتُتحت مدارس جديدة بإشرافه، وعُيّن مشرفًا مباشراً على حركة التأسيس، وكان يكتب الإعلانات بخط يده ويعلّقها بنفسه على جدران البلدة، وفي عام 1382هـ / 1962م برزت أزمة كبيرة عند التوسع في تعليم البنات، مما استدعى تدخّل الملك سلمان بن عبدالعزيز-أمير الرياض آنذاك - بحزم، لدعم فتح مدارس البنات وإيقاف الضغوط المجتمعية بقوله الشهير:”فتح مدارس البنات إجباري وليس اختيارياً، أما الدراسة فهي اختيارية” وهذا القول سبق أن أطلقه الملك فيصل رحمه الله حيث بلغت عملية تعليم البنات في عهده أوجها، مما هدّأ الأوضاع ومهّد لنجاح المشروع، وفي عام 1385هـ / 1965م توسع تعليم البنات في محافظات أخرى، فكان الشيخ الحسيني يرافق افتتاح المدارس، ويشرف على تعيين المعلّمات وتحديد المناهج المناسبة، وفي السبعينيات الميلادية استقرت التجربة، ودخلن بنات الجيل الأول إلى مقاعد الدراسة، تبعه ظهور أولى دفعات الخريجات، ثم بداية التحاق الفتيات بالجامعات لاحقًا. وفي عام ١٤٣٧هـ / ٢٠١٦م صدر كتاب «الشيخ عبدالله الحسيني: أول مندوب لتعليم البنات في المنطقة الوسطى» من إعداد ابنه محمد بن عبدالله الحسيني، يوثّق فيه ذكريات والده وصراعاته.وفي الختام يقال: إن هذا الكتاب، إضافة إلى إضاءته لمحطات وسيرة الشيخ الحسيني؛ فهو ثريٌّ بالمعلومات التأريخية في مجالٍ من أهم مجالات التأريخ الوطني، وهو المجال التعليمي والتربوي، مع عناية فائقة بإبراز أعلام هذا التأريخ من قيادات وزملاء العمل، بل قيادات الدولة ممن تتطلب طبيعة عمله والأحداث المصاحبة لها التواصل معهم. كما يقدّم توثيقًا تأريخيًا قيّمًا لمسيرة تأسيس التعليم النظامي للبنات في المملكة، من خلال تجربة شخصية حقيقية، تعبّر عن مرحلة حاسمة في تطور المجتمع والتعليم. وهو مزيج بين السيرة الذاتية والتاريخ الوطني في قالب مفعم بالإخلاص والجهد والمثابرة. وبالله التوفيق.