
غني عن القول أن إيران قبل الثورة كانت إمبراطورية يحكمها الإمبراطور محمد رضا بهلوي الملقب بشاهنشاه, أي ملك الملوك. وكان من الحلفاء الأقوياء لأمريكا في الشرق الأوسط حتى إن البعض كان يحلو لهم تلقيبه بلقب: شرطي أمريكا في المنطقة, كما كان على علاقة حميميّة – طبقا لما هو شائع حينذاك – مع إسرائيل, خصوصًا بعد انقلاب عام 1953م الذي أطاح برئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدّق, وأعاد الشاة محمد رضا بلهوي إلى ملكه بتدبير من أمريكا وبريطانيا. وكانت لإسرائيل سفارة في طهران, وبينها وبين إيران في زمن الشاة علاقات تجارية واسعة, وعلى رأسها تجارة السلاح التي كانت إسرائيل من بين الدول التي استكثر الشاة استيراد السلاح منها. يوصف الشاه محمد رضا بهلوي بأنه كان إمبراطورًا مستبدًّا, وانه ممتلئ بالزَّهْو والغطرسة, وكان شديد الاعتزاز بعنصره الفارسي, وبأمجاد أباطرة فارس في عصورهم الوثنية القديمة حتى إنه أقام حفلًا باذخًا في أكتوبر عام 1971م بمناسبة مرور 2500عام على تأسيس الإمبراطورة الفارسية في مدينة برسيبوليس التاريخية, دعا إليه العديد من ملوك العالم ورؤساء دوله, وصرف عليه مئات الملايين في الوقت الذي كان قطاع كبير من شعبه يعاني من فقر مدقع. وقد جرّ عليه ذلك الحفل الأسطوري, وانشغاله عن هموم شعبه بالاستكثار من شراء السلاح, وبناء قوة ضاربة في الخليج, نقمة داخلية أفضت إلى ثورة شعبية عارمة انتهت بسقوط حكمه, وطرده من إيران على الرغم من المعالجات اليائسة التي لم تجد نفعًا في الحيلولة دون سقوط عرشه. ومنها قبوله بأن يكون إمبراطورًا دستوريًّا يملك ولا يحكم, وقبوله بتعيين أحد معارضيه, وهو شاهبور بختيار رئيسًا لمجلس الوزراء مع صلاحيات واسعة مكنّته من حَلّ البوليس السِّرِّي (السافاك), والإفراج عن السجناء السياسيين, والسماح بالمظاهرات الشعبية, وإطلاق الوعود بإجراء انتخابات حرة ونزيهة, إلا أن طوفان المدّ الثوري كان أقوى من كلّ معالجة حيث جرفت أمواجه العاتية كلاً من الشاه, ورئيس وزرائه شاهبور بختيار إلى خارج سدّة الحكم, بل إلى خارج إيران إلى الأبد, فالأول وهو الشاه طار إلى مصر, فالمغرب, ثم إلى المكسيك وبنما محاولًا اللجوء إلى أمريكا للعلاج فيها من سرطان الغدد الليمفاوية الذي كان يعاني منه, ولكنه لم يُمكّن من دخول أمريكا في حدود علمي, لينتهي به المطاف في مصر التي توفي ودفن فيها في يوليو عام 1980, والثاني, وهو شاهبور بختيار لجأ إلى منفاه الاختياري في باريس إلى أن أغتيل في بيته في باريس عام 1991م. ومن الصُّدَف العجيبة أن طائرة الشاه حينما حطّت في المغرب قادمة من مصر كان كاتب هذه الأسطر أحد المسافرين الذين حطّت طائرتهم القادمة من الرياض على تراب المغرب متوّقفًا فيها لبعض الوقت حينما كنت في طريقي إلى بريطانيا مبتعثًا من جامعة الرياض (الملك سعود حاليًّا) للتحضير لدرجة الدكتوراه هناك. وفي الوقت نفسه كانت طائرة آية الله الخميني تستعدّ للإقلاع من باريس إلى طهران احتفاءً بقدومه قائدًا للثورة التي لم تكن ثورة ملالي فقط كما يظنّ كثيرون, بل هي انتفاضة شعبيّة عارمة, شارك فيها معظم أطياف الشعب الإيراني من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, ومن مختلف الاتجاهات التي لا رابط بينها إلا التخلّص من نظام الشاه المستبدّ, ولكن شخصية آية الله الخميني كانت هي الأبرز في قيادة الثورة, وكذلك في وضع الأسس الأولى لقيام جمهورية إسلامية في إيران بعد نجاح تلك الثورة التي استهلّها بتعيين مهدي بازرقان رئيسًا للحكومة الإيرانية المؤقتة, وأجرى الخميني بوصفه المرشد الأعلى للثورة في 30, 31 مارس 1979م استفتاءً شعبيًّا يقضى بالموافقة على تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية, شارك فيه أكثر من 98% من الشعب الإيراني الذين يحقّ لهم التصويت, وطبيعي في غمرة ذلك الزخم الثوري المتعاظم أن تكون النتيجة 99% لصالح الاستفتاء, ومنذئذ وجّه الخميني بأن يكون ذلك اليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الاستفتاء, وهو الأول من شهر إبريل, يومًا وطنيًّا لعموم إيران. وبعد عام من رئاسة مهدي بازرقان للحكومة الإيرانية الموقّتة جرى انتخاب أول رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية في 4 فبراير عام 1980م, وهو أبو الحسن بني صدر بغالبية عظمى, إن لم تخني الذاكرة, وهو من غير رجال الدين, ولكنه عُزل بعد عام من انتخابه ليليه في هذا المنصب محمد علي رجائي, وهو من غير رجال الدين أيضًا, إلا أنه أغتيل في 11 مارس عام 1981م, وخلفه في منصبه الشيخ علي خاميني (المرشد الأعلى الحالي للثورة), وهو أول رئيس للجمهورية الإسلامية من الملالي, خلافًا لما قيل عن التقليد الذي ارتآه آية الله الخميني في أول يوم من تأسيس الجمهورية الإسلامية, وهو ألا يكون رئيس الجمهورية من رجال الدين. وحينما توفي آية الله الخميني في 3 يونيو 1989م واختير علي خامنئي مرشدًا أعلى للثورة الإسلامية خلفه في رئاسة الجمهورية الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني, ثم الشيخ محمد خاتمي, فالمهندس محمود أحمدي نجاد, فالشيخ حسن روحاني, والشيخ إبراهيم رئيسي, وأخيرًا الرئيس الحالي الدكتور مسعود بزشكيان. ولا يعنينا في هذه المقالة التفصيل في أوضاع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد الثورة, ولا في علاقاتها بجيرانها من العرب خاصة, وإنما يهمنا علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية, وهو موضوع هذه المقالة, وما يتصل بها من التزام الأخيرة بأمن إسرائيل, وحقّها في الوجود, وتعارض ذلك الالتزام مع إعلان آية الله الخميني بأن إسرائيل عدوّة للإسلام, وأنها الشيطان الأصغر على حين أن أمريكا هي الشيطان الأكبر, وأردف هذا الإعلان بأن أغلق السفارة الإسرائيلية في طهران, واستبدل بها سفارة لفلسطين كان هاني الحسن - عضو المجلس المركزي لحركة فتح - أول سفير لفلسطين في إيران, وكانت صورة الرئيس ياسر عرفات يحملها المتظاهرون في شوارع طهران جنبًا إلى جنب مع صورة آية الله الخميني, وهم يندّدون بأمريكا وربيبتها إسرائيل, وحتى هذه الحالة يصعب التفصيل فيها في هذا الحيّز الضيّق, وسأكتفي فقط بذكر ما يتّسع له المجال من بعض المحطات الرئيسة, والأحداث التي لا يزال بعضها عالقًا في ذاكرة المتابعين لذلك الشأن ممن هم في مثل سِنِّي من أترابي, أو قريب منه. وعلى الرغم من إسلاميّة الثورة الإيرانيّة المعلنة, وقضائها على كل المظاهر المنافية للإسلام في عهد الشاه, وسلوكها مسلكًا إسلاميًّا واضحًا وبيِّنًا لكل من عاصرها فإنها على ما يبدو تأثرت بالانقلابات العسكرية التي أطاحت ببعض الأسر الملكيّة الحاكمة في بعض الدول العربية على غير هدى, وتأثّرت بالخطاب الناصري الثوري الذي من المحتمل أنه كان لايزال قريب عهد بذاكرة الثوار الإيرانيين في ذلك الزمن, وتبعًا لذلك رفعت إيران الثورة صوتًا إعلاميًّا معاديًا للغرب, وخصوصًا أمريكا, وانحازت إلى تيّار اليسار العربي المتّصف شكلاً وليس جوهرًا بالتقدميّة والثوريّة في دعايتهم, وما سوى ذلك فهو رجعي متخلّف, وعميل لأمريكا الإمبريالية, وعلى رأس دول ذلك التيار اليساري ما عُرف بجبهة الصمود والتصدّي التي ضمتّ كلاً من ليبيا وسوريا والعراق والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية, وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. ذلك الصوت الثوري النشاز الذي كان براّقًا حينذاك ربما تلبّس الثورة الإيرانية, وما حملته دعايتها من تصدير الثورة, والعداء لأمريكا, وذلك على خلاف العُرْف السائد لدى معظم الدول التي يحصل تغيير في أنظمتها, أنها كثيرًا ما تسارع في بياناتها الأولى إلى الإعلان صراحة عن احترام ما بينها وبين الدول الأخرى من اتفاقيات ومعاهدات أبرمت في عهود سابقيها, سعيًا إلى اكتساب اعترافها من جهة، ومن جهة أخرى تجنبًا لأي إشكالات قد تترتّب عليها لو لم تفعّل. ولو سلكت الثورة الإيرانية ذلك المسلك, وخصوصًا مع أمريكا لتغيّر وجه التاريخ, ولكن الله يفعل ما يريد. وكان أول وأقوى إسفين دُقَّ في جدار العلاقات الإيرانية الأمريكية احتلال مجموعة من الطلاب الإيرانيين المتشدّدين للسفارة الإيرانية في طهران في 4 نوفمبر عام 1979م, واحتجاز أكثر من 50 من ساكنيها من دبلوماسيين وسواهم, ولم يُفرج عن السجناء الأمريكيين إلا بعد 444 يومًا بوساطة جزائرية في 20 يناير عام 1981م. وقد شكّلت تلك الحادثة نقطة تحول أدّت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما, وإلى فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على إيران بما فيها تجميد الأرصدة الإيرانية في البنوك الأمريكية. كما أدّت إلى أول احتكاك عسكري فيما بينهما من خلال ما عُرف بعملية: مخلب النسر التي نفذتها القوات المسلحة الأمريكية إلى جانب القوات الخاصة في 25 إبريل عام 1980م بهدف تحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في سفارتها بطهران, إلا أن تلك العملية باءت بالفشل, وأدّت إلى تدمير طائرتين امريكيتين, ومقتل ثمانية جنود أمريكيين في صحراء طبس الواقعة إلى الشمال من طهران, وربما كان لتلك الحادثة, واحتجاز الرهائن الأثر الأبعد في هزيمة الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر أمام منافسه الجمهوري رونالد ريغان في انتخابات نوفمبر عام 1980 الذي حقّق فيها الأخير فوزًا كاسحًا على الرئيس جيمي كارتر. ومن الأزمات التي طالت العلاقات الإيرانية الأمريكية إسقاط البحرية الأمريكية طائرة من نوع أي 300 إيرباص في 3 يونيو عام 1988م أقلعت من مطار بندر عباس الإيراني الدولي إلى مطار دبي الدولي في الإمارات العربية المتحدة, وعلى متنها 290 شخصًا ماتوا جميعهم, ولم تعترف أمريكا بمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة الإيرانية ظنًّا منها أنها طائرة مقاتلة, ولكنها توصّلت مع إيران إلى تسوية في محكمة العدل الدولية دفعت أمريكا بموجبها تعويضات لأسر الضحايا. ومثل ذلك أسقطت قوات الجو الإيرانية التابعة للحرس الثوري طائرة آركيو 4 بصاروخ أرض جو في 20 يونيو 2019م فوق منطقة مضيق هرمز. وعلى الرغم من تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في رئاسته الأولى بالردّ العسكري على هذه الحادثة إلا أنه عَدَل عن ذلك في اللحظة الأخيرة, وقال في تصريح له في العَلَن: حتى لا يتسبّب ردّه في مقتل 150 نفسًا بريئة على ما أذكر. ولم يمرّ على هذه الحادثة كبير وقت حتى أقدمت أمريكا على قتل قاسم سليماني قائد قوات فيلق القدس التابعة للحرس الجمهوري الثوري في محيط مطار بغداد في 3 يناير عام 2020م, ومعه مهدي المهندس, وآخرين من مرافقيهما, ولم تُحِرْ إيران وقتًا في الردّ على هذا الحدث الذي كان مؤلمًا لها حقًا لمكانة الرجل, وأهمية الأدوار التي كان يضطلع بها خدمة لمصالح بلده وسياستها المعروفة التي لم تكن لتخفى على القارئ الكريم حينذاك, وتضمّن الردّ الإيراني إطلاق أكثر من 12 صاروخًا بالستيًّا على قاعدتين أمريكيتين في شمال العراق وغربه في 8 يناير عام 2020م أدّت إلى حدوث أضرار في القاعدتين العسكريتين, وإصابة بعض الجنود الأمريكان. وهناك عامل آخر غير مباشر يزيد من تأجيج الأزمات بين إيران وأمريكا هو الموقف من إسرائيل, ذلك أن الغرب وعلى رأسه أمريكا حينما أوجد الكيان الإسرائيلي في فلسطين تعهّد ببقائها مهما كانت الظروف, ومهما كلّفها الأمر, وأي محاولة تهدّد ذلك البقاء لإسرائيل لن يقف الغرب مكتوف الأيدي حيالها, وسياسة إيران المعلنة منذ بداية الثورة الإسلامية تظهر العداء لإسرائيل, وبالتالي تهديد بقائها طبقا لتعهدات حلفائها الغربيين, فإلى جانب ما أشرنا إليه سابقًا من إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران, وطرد البعثة الدبلوماسية من البلاد, ووصف إسرائيل بالشيطان الأصغر لم يكفّ الإعلام الإيراني عن إظهار العداء لإسرائيل بوصفها كيانًا محتلًا لأراضٍ فلسطينية بما فيها القدس الشريف, من ذلك على سبيل المثال لا الحصر إحياؤها يومًا عالميًّا للقدس أسمته: يوم القدس العالمي, يُعقد كل عام في آخر جمعة من شهر رمضان, وفيه تجتمع الحشود, وتقام المظاهرات المناهضة للصهيونية. ونظمّت الحكومة الإيرانية في 11 يناير 2006م في أثناء رئاسة محمود أحمدي نجاد مؤتمرًا دوليًّا بعنوان: المؤتمر الدولي لمراجعة الرؤية العالمية للهولوكست الذي وصفه كثيرون بأنه إنكار للهولوكست أي المحرقة التي قيل بأنه راح ضحيتها ستة ملايين يهودي على أيدي النازية في ألمانيا, وهذا المؤتمر عدّه اليهود ومن ورائهم أمريكا معاداة للسامية. ومما زاد الطين بلّه حرص إيران على تخصيب اليورانيوم على أرضها, والتوسع في صناعة الصواريخ البالستية البعيدة المدى, وإيجاد أذرع لها في أمكنة قريبة من حدود إسرائيل, ومنها حزب الله في لبنان, ورجال إيران ومستشاروها المنتشرون في سوريا في حقبة بشار الأسد, مما اعتبرته إسرائيل, ومن ورائها حلفاؤها, وعلى رأسهم أمريكا مهدّدًا لبقائها. والاعتراض هنا ليس على الاستخدام السلمي للطاقة النووية الذي دائمًا تصرّح به إيران صباح مساء, بل الاعتراض على تخصيب اليورانيوم داخل إيران خوفًا من أن يؤدي ذلك التخصيب سرًّا إلى صنع سلاح نووي. أما استخدام إيران للطاقة النووية للأغراض السلمية تحت رقابة دولية دون حقها في تخصيب اليورانيوم على أرضها فلا يبدو عليه اعتراض؛ لأن في إيران نفسها حاليًّا محطة نووية لتوليد الكهرباء في مدينة بوشهر الواقعة على بعد 17 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة بوشهر أقيمت منذ العام 2011م باتفاق بين إيران وروسيا بحيث تولّت الأخيرة بناء المحطة, وتشغيلها بأيدي خبراء روس, وتوفير الوقود النووي اللازم لها, وإعادة مخلفاته إلى روسيا لضمان إدارة النفايات هناك بشكل سليم. وقد لا يبدو محذورًا على إيران بناء محطات نووية أخرى للأغراض السلمية بالطريقة نفسها التي شيدّت بها محطة بوشهر لولا إصرارها على تخصيب اليورانيوم اللازم لتشغيلها داخليًّا بدلاً من استيراده من الخارج. وبعد جهد جهيد, ومفاوضات مراثونيّة مع كل من الصين وروسيا وأمريكا وفرنسا وانجلترا وألمانيا تُوِّجت في مدينة لوزان بسويسرا بتوقيع إيران اتفاقًا مع تلك الدول الست في 2 إبريل عام 2015م تضمّن القبول بالطابع السلمي لهذا البرنامج, وإلغاء جميع العقوبات المفروضة على إيران, ويُعدّ هذا الاتفاق اختراقًا مهمًّا في أزمة استمرت 12 عامًا حول البرنامج النووي الإيراني, وفي الوقت الذي استبشر به الرئيس الإيراني حسن روحاني, وأكدّ على أنه اعتراف صريح بحق إيران في تخصيب اليورانيوم, ووصفته إسرائيل بالخطأ التاريخي, وقال عنه نتنياهو: إنه يمهّد الطريق أمام إيران لحيازة القنبلة الذرية, وأنه يهدّد بقاء إسرائيل. إلا أن هذا الاتفاق لم يدم طويلًا إذ أعلن الرئيس دونالد ترامب في 8 مايو عام 2018م خروج بلاده رسميًّا من الاتفاق, وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران. وبخروج أمريكا تضعضع أمر الاتفاق, ولم تستطع الدول الغربية الأخرى الموقّعة عليه الوفاء بما التزمت به, وإيران من جانبها عمدت إلى زيادة تخصيب اليورانيوم تدريجيًّا من 3.67 وهي النسبة التي التزمت بها بموجب اتفاق لوزان إلى 60% وإلى زيادة أعداد أجهزة الطرد المركزي في مفاعلاتها النووية مما حَمَل إسرائيل ومن ورائها أمريكا على التشكيك في نواياها, وأنها تقترب من صنع قنبلة ذرية, فأعطت تلك الشكوك الذرائع لإسرائيل ربما بضوء من أمريكا إلى ضرب المفاعلات النووية في إيران, واغتيال عدد من علماء الذرة, وكبار القياديين في إيران, وردّت إيران بإطلاق مئات الصواريخ البعيدة المدى على إسرائيل مخلّفة دمارًا شاملًا في بعض المدن الإسرائيلية, واستمرت هذه العملية 12 يومًا, ولما لم تحقّق ضربات الطيران الإسرائيلي, ووسائلها الحربية الأخرى على المفاعلات النووية الإيرانية الأهداف المرجوّة من شن تلك الضربات تدخّل الرئيس ترامب بضرب ثلاث منشآت نووية مهمة في إيران هي منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم, ومنشاة نطنز النووية, ومنشأة أصفهان النووية أيضا, وذلك بالتنسيق الكامل مع إسرائيل, وقد نفذّت أمريكا تلك الضربات باستخدام قنابل متعددة بوزن 30000 رطل تحملها قاذفات الشبح نورثروب غرومان بي2, وردّت إيران على تلك الضربات بضرب قاعدة العُدَيْد الأمريكية في قطر برشقة من الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى. وكانت هاتان الضربتان خاتمة لتلك الحرب الضروس المدمّرة التي استمرت اثني عشر يومًا, وبلغت أعلى درجات التصعيد العدائي بين أمريكا وربيبتها إسرائيل من جهة, وإيران من جهة أخرى. وقبل الدخول فيما سيجري به القلم في الأسطر الآتية من تحليلات وفرضيات وخلافها أود أن أشير بوضوح إلى أن ما سأدوّنه هنا يختصّ فقط بما بين إيران وأمريكا دون إسرائيل التي لا يعنيني تطبيعها مع أي دولة كانت عربية أم غير عربية, فموقفي من التطبيع مع إسرائيل هو موقف دولتي وقيادتها الرشيدة الواضح والمعلن بأنه لا تطبيع مع إسرائيل إلا بقبولها بحلّ الدولتين؛ أي دولة فلسطينية, ودولة إسرائيلية تعيشان جنبًا إلى جنب على أرض فلسطين في سلام ووئام. أما إيران وأمريكا اللتان عرضنا سابقًا لبعض محطات من الأزمات التي احتدمت بينهما على مدى ستة وأربعين عامًا، ففي اعتقادي أن تلك الأزمات وصلت إلى قمتها المتمثلة في عمليّة منتصف الليل سابقة الذكر, وردّ إيران الغاضب عليها, وليس ما بعد القمة شيء إلا الصعود إلى ذُرْوَة أخرى جديدة, وهذه لا سمح الله مستبعدة؛ لأنها كارثية وعواقبها وخيمة, أو الانحدار إلى الأسفل, وهذه ممكنة, وكما يقال ما بعد الصعود إلا النزول, أي العودة إلى النقطة التي بدأ منها ذلك الصعود وبواعثه. ولعل أهم ما رسخ في ذاكرة الثوار في إيران دور أمريكا وتدخلها في إسقاط حكومة الرئيس محمد مصدّق المنتخبة ديموقراطيًّا في عام 1953م, وما تركه ذلك التدخل من حسرة وغصّة في قلوب مؤيدي تلك الحكومة, زادها وأججّها الخطاب الثوري الذي تلبّس الثوار الإيرانيين شيبًا وشبّانًا, خصوصًا في أوساط الشباب المتشدّد والممتلئ حماسًا وزهوًا بنجاح الثورة, وبرفع شعار العداء لما يطلقون عليها: الإمبريالية الأمريكية, ذلك العداء الذي أفضى إلى ما سبق أن أشرنا إليه من احتلال السفارة الأمريكية, واحتجاز من فيها من الأمريكان رهائن, وما ترتب على ذلك من التضييق على إيران, وتجميد أرصدتها, وحصارها, وفرض عقوبات متشدّدة عليها, وحتى شنّ الحرب عليها بضرب منشآتها النووية كما تقدم, وفي ظني – من وجهة نظر تاريخية بحتة – أن إيران الثورة لو لم تناصب أمريكا العداء, ولم تستنكف عن أقامه علاقات طبيعية ندِّيَّة معها حالها حال غيرها من دول العالم, ووجّهت ذلك الحماس الثوري المتوقّد نحو البناء والتنمية لكانت الآن - في تقديري الشخصي - في حال أفضل مما هي عليه بمراحل, خصوصًا وأن الثورة الإيرانية كانت من أنجح الثورات التي شهدها عالمنا المعاصر, وفيها كفاءات بشرية على مستوى عال من التأهيل والتدريب والخبرة في الحكم والإدارة في حدود علمي. وقد لاحت بعض الفرص لإيران لاستعادة علاقاتها مع أمريكا, منها في زمن الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي حينما دعا إلى حوار الحضارات, وألقى كلمة في مقرّ الأمم المتحدة بنيويورك حضرتها مادلين أولبرايت, وزيرة خارجية أمريكا في حكومة بيل كلينتون, فُسّر ذلك الحضور من قبل الوزيرة الأمريكية على أنه بادرة رمزية لتحسين العلاقات بين البلدين, وكذلك في زمن الرئيس باراك أوباما الذي غازل إيران والإيرانيين باعترافه علنًا في عام 2013م بتورّط أمريكا في الإطاحة بحكومة محمد مصدّق المشار إليها سابقًا, وأيضا في توقيع اتفاقية لوزان في 2 إبريل (نيسان) عام 2015م التي تضمّنت الموافقة على الطابع النووي السلمي للبرنامج النووي الإيراني, لولا أن أمريكا انسحبت منه بُعيد فوز الرئيس دونالد ترامب على منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون في نوفمبر عام 2016م, ولو فازت الأخيرة لتغيّر وجه التاريخ فيما يخصّ العلاقات بين إيران وأمريكا, وانعكاساتها على المنطقة ولكن لكل أجل كتاب. فهل حان موعد ذلك الأجل المكتوب, وهل وصل التصاعد في الأزمات بين إيران وأمريكا إلى منتهاه؟ ذلك كله في علم الغيب الذي لا يقدّره إلا علاّم الغيوب, ولكن إذا أخذنا في الحسبان أنه لا عداوة دائمة في عرف السياسة, بدليل أن إيران نفسها وجارتها العراق دَقَّا فيما بينهما عِطْرَ مَنْشَمِ قبل سبعة وثلاثين عامًا, أي في حربهم الضروس التي استمرت على مدى ثماني سنوات (1980-1988م), وأكلت الأخضر واليابس, ولم يمرّ وقت كبير حتى عادت العلاقات بين الدولتين إلى سابق عهدها, وبصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا بين الجارتين فيما قرأنا من صحائفه عبر الزمن. وكذلك الدول الغربية, وعلى رأسها أمريكا هي التي سَحَقَت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية, وهي من أعاد إليها الحياة من خلال مشروع مارشال الذي لم يمرّ عليه وقت كبير حتى غَدَت ألمانيا من أقوى دول أوربا الغربية اقتصاديًّا, ومن أكثرها في التقدّم العلمي والتكنولوجي. ومهما وقع بين إيران وأمريكا من أحداث فإن الأخيرة تدرك أهمية إيران التاريخية والاقتصادية والاستراتيجية, ومن المحتمل أنها في قرارة نفسها تتطلّع إلى استعادة علاقاتها معها لأسباب كثيرة ليس أقلها أهميتها بوصفها سوقًا واعدًا للتبادل التجاري معها؛ ولأننا اليوم نعيش عصر رئيس أمريكي يختلف عن سابقيه في سرعة اتخاذ القرار إقدامًا أو تراجعًا هو الرئيس دونالد ترامب الذي يوصف بأنه رجل صفقات, وكثيرًا ماعشّم متابعيه بكلامه المعسول تجاه إيران في أثناء المحادثات الأخيرة التي جرت بين وزير خارجيته ونظيره الإيراني في مسقط وروما قبيل عملية منتصف الليل سابقة الذكر والردّ الإيراني عليها, ولعله هو الرئيس القادر في حالة استئناف المحادثات مرة أخرى بين بلاده وإيران على اتخاذ قرار سريع برفع كامل العقوبات عن إيران, وهو ما تطمح إليه في كل محادثاتها مع الغرب. أما حقّها في تخصيب اليورانيوم على أرضها فذلك هو العقدة التي كثيرًا ما ينشب فيها منشار النجّار كما يقولون, فلعلّ عقول المتفاوضين تتفتّق عن حَلٍّ يرضي جميع الأطراف, خصوصًا وقد سمعنا في المفاوضات السابقة الحديث عن كونسورتيوم لتخصيب اليورانيوم يشمل إيران, مما يعني أن المتفاوضين السابقين كانوا في سبيلهم للبحث عن حلول مُرْضِيَة للطرفين, لولا الظروف الملّحة المترتّبة على ما يُعتقد بوقوع الرئيس دونالد ترامب تحت ضغوط من الجانب الإسرائيلي, الأمر الذي عجّل بوقوع الفأس في الرأس كما يقولون. فلّعلهما في أي مفاوضات مقبلة, مع قدر من الصَّبْر, وحسن النوايا, والملل من طول الخصام, والعداوة المستشرية, الرجوع إلى تحكيم العقول, وتغليب مصالح البلدين وشعبيهما أن يتوصلا إلى تلك الحلول المرضية, وما يمكن أن يعوّل عليها في تذليل الصعوبات التي تعترض سبيل أي تحسّن في العلاقات بين البلدين في قابل الأيام. فهل تعود المياه إلى مجاريها, وهل يتّصل ما انقطع من علاقات بين إيران وأمريكا؟ وهل يتوقف الصراع في الخليج الذي عانى منه على مدى خمسة عقود, ويتحوّل إلى بحيرة سلام؟ إننا لنرجو, وليس ذلك على الله بعزيز!!