
كما يتذوق المرءُ الموسيقى بشغف، ويستشعرُ قصيدةَ الشعر بوجدان، وينفعلُ مع الطرب الأصيل بحسٍّ مرهف، فإن لتذوق الفن التشكيلي نغمةٌ أخرى خاصة. إنه ليس مجرد مشاهدة بعينٍ، بل هو استشعارٌ بكيانٍ كامل؛ حالةٌ تأخذك من عالمك إلى عالم الفنان، تؤثّر في مناخك الداخلي، وتنتشلك من حالٍ إلى حال، وكأنّ اللوحة تنطق بلغةٍ لا تُسمع ولكنّها تُحسّ. وفي هذا العالم، تُعتبر تجربة الفنان السعودي محمد الرباط حالة إبداعية مختلفة، متميزة، وممتلئة بعمقٍ نادر، ودقةٍ فائقة، وجمالٍ يخاطب الروح. إن مشاهدة لوحاته ليست كأي مشاهدة؛ فهي رحلة استثنائية تتوقّف فيها أمام كل عمل فني، لا لترى شكلاً وألواناً فحسب، بل لتغوص في تفاصيله، وتُؤسَر برسائله، وتستمع إلى “موسيقى ألوانه” التي تتناغم في تناسقٍ أخّاذ. لا يحتاج الأمر إلى الخوض في تاريخ الرباط أو سيرته المهنية، فهي حكايةٌ معروفة ومتاحة، ولكن الحديث هنا يدور حول عبقرية هذا الرجل وموهبته الفذّة، وقدرته العجيبة على “استنطاق اللون”، وتحويله إلى ما يشبه القصيدة الشعرية المرسومة، التي تقرأها العين بأحرفٍ من نور وانسجام. لقد بدأ الرباط مسيرته الفنية في رحاب الواقعية، ليتدرج بعدها في انطلاقةٍ قوية نحو آفاق الابتكار والخيال والتصميم، مارّاً بعوالم التجريد والسريالية ببراعةٍ تبعث على الإعجاب والتأمّل. والأكثر إبهاراً في مسيرة الرباط هو عدم اقتصاره على اللون والريشة، ولا حتى على الموسيقى التي “يتقنها ويخفيها” ..بل امتداد عبقريته إلى عالم النحت التشكيلي، حيث يتعامل مع خاماتٍ متعددةٍ ومتنوعة، ليحوّلها بأدقّ التفاصيل إلى كائناتٍ تحمل روحاً وجمالاً. هذه اللمسة الابتكارية المتعددة الوسائط هي جانبٌ أساسي من عظمته، وجديرةٌ بأن تُسلَّط عليها الأضواء، بل وأن تُدرَّس في مقررات الفن، كمنهجٍ يُحتذى به في الإبداع والتنوع. واللافت في أعمال الرباط أنها لا تحمل هويةً محلية أو عربية فقط، بل تحمل قيمةً عالمية بامتياز. وهي لوحات لا تخاطب العربي أو الأعجمي، بل تخاطب الإنسان في كل مكان، بكلّ ما يحمله من مشاعر وأحاسيس مشتركة. ولو كان هذا الفنان في اي بلد غربي لَصار صيتهُ فناً عالمياً يُحتفى به، ولَأُسدلت الأضواء على إبداعاته في أرقى صالات الفن العالمية. ومن هنا، تأتي ضرورة أن نصدّر فنانينا الكبار ذوي الموهبة الربانية ، كما صدّرنا موسيقانا وتراثنا، إلى العالم. فكما قدّم لنا الغرب فنانيهم، يجب أن نقدم نحن للعالم فنّانينا من أمثال محمد الرباط، الذي يمثّل بحقٍّ أحد أهم المبدعين الذين تفتخر بهم الساحة الفنية السعودية والعربية. إن فن محمد الرباط هو وجهة لكل من يبحث عن الجمال، ومرجعٌ لكل من يحاول صقل موهبته الفنية، ودليلٌ لكل من يتوق إلى تذوق مفهوم الجمال الحقيقي، ومعلّمٌ لمن يريد تعلّم أبجديات الفن الأصيل. و هو—بجدارة—أحد روّاد الإبداع والجمال في المملكة العربية السعودية، و رمزٌ من رموزها الفنية البارزة، واسمٌ يستحق كل تقديرٍ واحترام. فلوحاته لم تُخلق لتسرّ البصر فقط، بل هي محطات تُريح النفس، وتُبهج الخاطر ، وتُترجم أعمق المشاعر الإنسانية والأخلاقية والتراثية. وهي في مكنونها الاعمق رسائل تعبّر عن معنى الحب، وماهية الانتماء وحقيقة الفلسفة، وجذور الجمال الأصيل. محمد الرباط.. تحية إعجابٍ وإكبار لك ياصديقي مني ومن كل من رأى في لوحاتك عالماً يستحق الوقوف عنده، واستشعاراً للجمال يرقى بنا إلى مافوق السحاب احيانا .