
تُعدُّ منطقة عسير في مقدمة المناطق التي يقصدها السياح داخلياً وخارجياً، ولكن الأعين غفلت عمّا تضمنته تلك البقعة الجميلة من مواقع تاريخية ضاربة في القدم، ففي منطقة عسير وحدها ما يقارب ٢٤٣ مسجداً تاريخياً قائماً للصلاة حتى الآن، موزعة في أغلب محافظات ومراكز المنطقة، ويتمركز معظمها في السراة (أي: في أعالي قمم الجبال)، كما تحتضن عسير قرى أثرية لا تزال شامخة حتى وقتنا الحاضر؛ ولذلك عني «صالون يارة الثقافي» بارتياد بعض هذه الآثار، وتوثيقها وبث شيء من أخبارها وصورها في وسائل التواصل الاجتماعي ، ومن طريف ما وقع لنا في إحدى السنوات ببلدة «العزيزة» في أبها على طريق «السُّودة» : أن كنا في جماعة من النساء نتأمل راعياً مسناً يصعد يوميا مع ماشيته الجبل بنشاط وهمة، فتساءل بعضهن من يمكنها أن تحذو حذوه في صعود الجبل، فقلت لهن : من أمكنها أن تصل قمة الجبل أولا فلها مني جائزة بقيمة سيارة تشجيعا على اللياقة وسياحة الرياضات الجبلية الشائعة في كثير من بلدان العالم، فاتفقنا على يوم محدد وساعة محددة لبدء التحدي. وفي اليوم الموعود تجمهر عدد من المشجعين والمتفرجين لمعرفة نتيجة السباق، فبدأت المشتركات في تسلق الجبل، وفي محاذاتهن من الجهة الأخرى رجالهن الذين يخشون عليهن مغبة هذه المغامرة، وفي جو حماسي بلغت القمة أربع سيدات، وسلّم الجوائز كبير العائلة في تلك الرحلة المغفور له بإذن الله خالي : عبد الله الشغرود فتلقّت صاحبة المركز الأول : أريج بنت إبراهيم المنيف شيكاً بخمسة وثلاثين ألف ريال؛ إذ كانت السيارات الاقتصادية الجديدة آنذاك في نحو هذا المبلغ ، وزادتها قريبتي حسناء الجلعود ثلاثة آلاف ريال تشجيعاً لها ، فيما تلقت كل واحدةٍ من الثلاث الأخريات سارة بنت محمد الشغرود وأسماء بنت عبد الله الشغرود، وهيا بنت رجا السبيعي ثلاثة آلاف مني ، وخمسة آلاف من الوجيه : راشد بن حمد بن داوود القحطاني، وسُلّمت الجوائز مساء في ساحة بين المنازل، في حضرة بعض السياح، وجو من الاحتفاء والتصفيق الحار، وبتنا وباتوا في أنعم حال، أما عن أبرز ما في أبها من معالم أثرية تستحق الزيارة فعلى النحو التالي : 1- قصر شدا التاريخي: يحتل هذا المعلم مكانة بارزةً في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة ؛ إذ أنشئ بطلب من : جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عام: ۱۹۲۷م، وكُلّف بإنشائه: المدير المالي لأبها آنذاك: عبد الوهاب أبو ملحة؛ فكان بمثابة القلب النابض لمدينة أبها، ومقر أمير المنطقة لفترة من الزمن، وقد تحول إلى متحف يضم اليوم مجموعة متنوعة من الحرف اليدوية ، والأدوات المنزلية القديمة، والقطع الأثرية، وتسهم زيارة هذا القصر التاريخي باكتشاف العمارة التقليدية الجميلة في منطقة عسير. 2- قلعة شمسان: يعود تاريخ هذه القلعة إلى فترة حكم الدولة العثمانية ، ويذكر أن الذي أمر ببنائها على قمة جبل شمسان الوالي العثماني: محيي الدين باشا، بهدف: حماية القادمين من عقبة شعار شمالاً، وقد استمرت هذه القلعة بوظيفتها العسكرية طوال فترة الوجود العثماني. أما عن صفتها المعمارية: فيبلغ ارتفاعها حوالي ۲۳م وتقع عند قاعدة جبل متوسط الارتفاع يبلغ طوله : ۹۰م، وعرضه ۵۰م، وترتكز على ثلاثة أبراج دفاعية في ثلاث زوايا فقط على غير العادة؛ إذ درج البناؤون على أن يكون الارتكاز في القلاع على أبراج أربعة، ومن اللافت أيضا أن لكل برج من الثلاثة شكل معماري مفارق لإخوته، فيما اعتمد البناؤون في إقامته على الألواح الحجرية، أمَّا التسقيف فمادته جذوع أشجار العرعر المنتشرة في الغابات الغربية لسراة عسير. 3- آبار الحفائر : وهي خمسة آبار قديمة مطوية، تقع على طريق الحجاج القادمين من اليمن قديما، شرق خميس مشيط بحوالي ٣٠ كلم، ولا يزال بعضها يستعمل في الزراعة حتى وقتنا الحاضر، وقد سمَّى الأهالي أصحاب المزارع لها حارسًا يحفظها من عبث العابثين. ويحد موقعها من الشمال : وادي الغول ووادي وطاط، ومن الشرق: وادي وطاط ووادي الخليج، في حين يحدها من الجنوب: وادي الغول وجبل قرين القاعة، ومن الغرب: وادي الغول ووادي حافش وتعرف الآبار محليا باسم (آبار أبرهة)؛ نسبة إلى قصة حفرها، إذ يذكر أن أبرهة الأشرم اصطلح مع قبيلة خُثعم على حفرها لهم مقابل أن يسمحوا له بالمرور بأرضهم في طريقه إلى مكة، واختاروا له مكانا ظاهره رملي سهل الحفر وباطنه طبقة صخرية يصعب حفرها ؛ عل هذا يعطله حتى تتمكن خثعم من إرسال النذير إلى مكة، لكن الجيش تمكن من الحفر بالاستعانة بالفيلة التي لم يكن التعامل معها مألوفًا في جزيرة العرب؛ فلما انتهى الحفر هاجمت خثعم جيش أبرهة ومنعته ولكنها هزمت! ومضت السنون وبقيت هذه الآبار شاهدة على تلك الحقبة. فعند ذكر منطقة عسير وجمالها وذكرياتها تخطر على ذهني أبيات جميلة من قصيدة الشاعر الأمير الراحل : بدر بن عبدالمحسن رحمه الله ، عندما تغنى بجمال عسير في قصيدته وبدأ بالتغني بمدينة أبها حين قال: كل ما كتبت أبها نشت فوق الأوراق سحابةٍ وابتل في الصدر معلوق. أخيل بين أصابعي نوض براق وكن القمر ينبت له غصون وعروق. ليكمل قوله في آخر القصيدة : لأجلك عسير أزعلت خلاني فراق جيتك ودونك أشهب القاع مشقوق. لي ديرةٍ خدانها مثل الآفاق فاطرافها وديان وجبال وعروق. وحّد ما بين ترابها دين وأخلاق وفرّق شمل عدوانها كفر وعقوق.